مع بداية ارتفاع اسعار البترول في العقد الأخير، أي من سنة 2005 إلى نهاية سنة 2014 ميلادي، شهدت أسعار البترول ارقاما قياسية، صاحب ذلك تضخم في مستوى المعيشة في المملكة العربية السعودية وسائر بلدان العالم.
ولا شك ان ارتفاع اسعار البترول له فائدة مباشرة على ميزانية الدولة، وبالتالي فائدة غير مباشرة على المواطن من خلال زيادة التنمية والمشاريع الحيوية مثل المدارس والجامعات والمستشفيات والطرق وغيرها، مما يحقق المكاسب للمواطن، إلا ان الواقع اثبت ان هناك تضخما يرافق الارتفاع في اسعار البترول، ولأن التضخم يؤثر مباشرة على المستهلك الذي هو المواطن، فإننا نلحظ انه قد يكون ضرره اكبر على المواطن، خصوصا الذي لم يستفد من المرافق التنموية لأي سبب.
من المعلوم ان ارتفاع اسعار البترول تخفض قيمة الدولار، وانخفاض الدولار يخفض معه قيمة الريال الذي يرتبط بالدولار مباشرة، وبالتالي تنخفض القوة الشرائية للريال، وهذا معناه انخفاض القوة الشرائية لدخل الفرد السعودي.
مهم جدا ان تكون نسبة ارتفاع التضخم جراء ارتفاع اسعار البترول هي نفس نسبة انخفاض التضخم مع انخفاض البترول.
والمتابع لإيرادات الدول النفطية عامة يلحظ انها كونت احتياطيا ضخما من الدولارات، واضطرت على اثره لتوجيه هذه الاحتياطيات الضخمة الى الصناديق السيادية التي تكون عادة في الولايات المتحدة الامريكية، ويكون جزء منها في اوروبا، وكلنا نعلم ان هذه الصناديق خسرت الكثير في ازمة الرهن العقاري التي ضربت امريكا وبعدها اوروبا في سنة 2007 ميلادية، وهذه الأزمة التي كادت ان تؤدي الى انهيار مالي عالمي كان من بين المتضررين دول الصناديق السيادية التي هي الدول البترولية، وعليه نستنتج ان ارتفاع البترول بأسعار يفوق بكثير ما قدر لميزانيات الدول النفطية، ولا يكون له تأثير على التنمية مباشرة؛ لأنه لا يوجه للداخل، بل يوجه للاستثمار في الخارج.
هذا الاستثمار الذي أثبتت الأيام انه يتسم بمخاطر عالية، وبالتالي ان بقاء اسعار البترول بمتوسط سعر حوالي ثمانين دولارا امر مفيد لإيرادات الدولة، ومتابعة المشاريع التنموية التي تستطيع الدولة تنفيذها خلال سنة مالية، وفي نفس الوقت يحافظ على مستوى التضخم الذي هو الهاجس الاول بالنسبة للمواطن، وبالتالي الاستقرار المالي على المستوى الشخصي.
ناهيك عن ان انخفاض اسعار البترول على المستوى المتوسط يجعل كثيرا من الشركات الاجنبية تفكر كثيرا قبل الإقدام على الاستثمار في مصادر اخرى واماكن اخرى غير تقليدية لاستخراج النفط، أما على المستوى السياسي، فقد أثبت هذا السلاح كفاءته بتغيير كثير من المواقف الدولية المعادية للدول النفطية العربية منذ سنة 1973 ميلادية، وما زال هذا السلاح يخدمنا ويجنبنا كثيراً من المخاطر، وكما قال الشيخ زايد «رحمه الله»: لن يكون البترول العربي اغلى من الدم العربي.
ويذكر التاريخ الموقف العظيم لجلالة الملك فيصل «رحمه الله» حين أرسل الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون وزير خارجيته وثعلب السياسة الأمريكية الى الملك فيصل بغية اثنائه عن قرار قطع البترول عن الدول الغربية والمساندة لإسرائيل في ذلك الوقت، حيث وصف هنري كسنجر الحوار الذي دار بينهما في مذكراته فيقول: (إنه عندما التقى الملك فيصل في جده عام 1973 في محاوله لإثنائه عن وقف ضخ البترول، رأى الملك فيصل متجهما، فأراد ان يستفتح الحديث معه في مداعبة فقال: إن طائرتي تقف هامدة في المطار؛ بسبب نفاد الوقود، فهل تأمرون جلالتكم بتموينها وأنا مستعد للدفع بالأسعار الحرة، فلم يبتسم الملك، بل رفع رأسه نحوي وقال: وأنا رجل طاعن في السن، وأمنيتي أن أصلي ركعتين في المسجد الأقصى قبل ان أموت، هل تساعدني على تحقيق هذه الأمنية).
رحمك الله يا فيصل، فقد علمتنا ان البترول هو عصب حياة الرأسمالية، وهو سلاح بيدنا يقينا شر أعدائنا.
نقلا عن اليوم