قدم البنك الدولي للإنشاء والتعمير عدداً كبيراً من الدراسات والتوصيات إلى الحكومة الكويتية منذ استقلال الكويت عام 1961، تتعلق بالإصلاح الاقتصادي وتعديل السياسات المالية وتطوير البنية المؤسسية الاقتصادية.
لكن لم يؤخذ الا ببعضها على مدار العقود الماضية.
وتوصيات البنك الدولي لبلد مثل الكويت لا تكون عادة، ملزمة مادياً أو معنوياً. ولا تعاني الكويت من ديون خارجية غير قابلة للتسديد ولا تواجه أخطار عجز كبير في الموازنة.
كما ان البنك الدولي ليس سوى جهة إستشارية تقدم توصيات حول أفضل السبل والآليات المتاحة للحكومة لترشيد الإنفاق وتنويع مصادر الإيرادات للخزينة وكيفية الارتقاء بكفاءة الإدارة وتنويع القاعدة الاقتصادية وإفساح المجال أمام القطاع الخاص ليلعب دوراً موثراً في الحياة الإقتصادية.
لم يكن البنك الدولي الجهة الإستشارية الوحيدة، بل هناك جهات محلية ودولية تولت مثل هذه المهمات، من أهمها مؤسسة رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير ومؤسسة «ميكنزي» وجامعات عريقة مثل «هارفارد» الأميركية ...، ناهيك عن فرق الدراسات المحلية والمجالس التي إنشأت بموجب مراسيم أميرية خلال السنوات الماضية.
وربما اكتظت أدراج الحكومة بمجلدات ضخمة من الدراسات والتوصيات والبرامج التي كان يفترض أن تساعد الحكومة على تبني سياسات اقتصادية وبرامج إنفاق مختلفة، تعمل على التحرر من الأوضاع القائمة وتؤسس لاقتصاد عصري يختلف عن كل المظاهر الريعية التي سادت في البلاد على مدى عقود قاربت السبعة منذ بداية عصر النفط.
خلال الأسبوع الماضي التقت بعثة من البنك الدولي المسؤولين الحكوميين وبحثت معهم قضايا الدعم السلعي ودعم المحروقات، وأوصت بوقفه واستبداله بدفع مبلغ محدد لكل فرد لمواجهة التزاماته تجاه الاستفادة من الكهرباء والمياه والوقود وغيرها.
وبرر اقتصاديو البنك الدولي هذا المقترح وأكدوا على إمكانات تطبيقه ونجاحه بعد أن تم الأخذ به في عدد من البلدان ومنها إيران منذ عهد الرئيس السابق محمود أحمدي. لكن هل يمكن تطبيق مثل هذا المشروع في الكويت؟
ثم إذا كان المقترح يهدف إلى توزيع مبالغ محددة إلى الأفراد في الكويت، كيف سيتم التوزيع في وقت يمثل الوافدون أكثر قليلاً من ثلثي السكان؟
يقدر الدعم بـ25 في المئة من الموازنة السنوية أي بحدود خمسة بلايين دينار كويتي أو 17 بليون دولار.
وإذا جرى التوزيع على السكان فإن نصيب الفرد سيكون 1250 ديناراً كويتياً سنوياً. فهل سيدفع هذا النظام إلى ترشيد الإستهلاك، خصوصاً الكهرباء والمياه والمحروقات؟
ربما سيدفع ذلك فئات سكانية إلى ضبط الإستهلاك لديها، خصوصاً فئات الوافدين ذات المداخيل المتواضعة.
وهناك كثير من أفراد الفئات الوافدة لا يستفيد كثيراً من الدعم في الوقت الحاضر نظراً الى طبيعة المعيشة ونوعية الحياة التي يتمتعون بها، ما يعني أن الأموال التي سيحصلون عليها ستكون مصدراً مهماً لتحسين الدخل.
وغني عن البيان أن التوزيع لا بد أن يتم من خلال آليات مختلفة وتحكمه أوزان ملائمة إذا تم الأخذ بالمقترح.
لا بد من الإقرار بأن تكاليف إنتاج الكهرباء والمياه تعد مرتفعة في شكل غير مقبول اذ تصل إلى نحو 40 فلساً لكيلوات الكهرباء. فهل يمكن خفض هذا المستوى من التكاليف وكيف؟
معلوم أن جزءاً مهماً منها يتمثل في الرواتب والإجور للعاملين في قطاع الكهرباء، وهذا القطاع يديره الجهاز الحكومي والذي لا يعمل بموجب معايير إقتصادية تؤثر في الكفاءة وخفض الكلفة.
ولذلك يطرح اقتصاديون أهمية تحويل المرفق إلى القطاع الخاص وإفساح المجال أمام التنافس لتحسين القدرة على ضبط التكاليف والإرتقاء بجودة الخدمات وتسعيرها في شكل مقبول وتقديم خدمات نوعية.
هناك أيضاً من يطرح إمكان تطبيق نظام الشرائح والتي تعتمد على رفع السعر على الفئات ذات الإستهلاك العالي، ويرى هؤلاء الإبقاء على السعر المدعوم والمساوي لفلسين للكيلوات للفئات المنخفضة الاستهلاك، ثم رفع الكلفة على الفئات المرتفعة الإستهلاك بموجب شرائح متعددة.
وربما يؤدي ذلك إلى ضبط ارتفاع الإستهلاك السنوي المقدر بخمسة في المئة سنوياً.
ويقدر إستهلاك الفرد من الكهرباء بـ 16 ألف كيلوات سنوياً وهو من أعلى المعدلات العالمية. كذلك فإن إستهلاك المياه في الكويت ، والتي يتم إنتاجها بواسطة تقطير مياه البحر، يعد أعلى المعدلات عالمياً.
ويتطلب إنتاج الكهرباء والمياه في الكويت إستخدام أكثر من 270 ألف برميل من الوقود. وتعد الكويت من البلدان الفقيرة بمصادر المياه الطبيعية.
ربما يتم تطبيق مقترحات البنك الدولي في شكل أكثر فعالية إذا اقترن بآليات واضحة، وقد تكون الكلفة في نهاية المطاف دون مستوى الخمسة بلايين دينار التي تخصص للدعم.
ومهما يكن من أمر فهناك أهمية لمعالجة سياسات الدعم على إسس عقلانية تؤدي إلى ترشيد السلوكيات الإستهلاكية في البلاد.
وتشير التقارير الموثوقة الى أن الإستهلاك المحلي من النفط يعادل 380 ألف برميل يومياً، ما يفقد الكويت إمكانات لجني إيرادات من تصديره.
فهل يمكن أن تؤدي المقترحات التي قدمها البنك الدولي إلى خفض استهلاك النفط وترشيد استهلاك الكهرباء والمياه وخفض حركة المركبات على الطرق؟ هل ستلقى هذه المقترحات قبولاً سياسياً؟
وهل سيساهم تراجع سعر النفط الى القبول بهذه المقترحات في شكل محدود من دون إثارة ردود فعل من قبل المواطنين؟
مطلوب توافر إرادة سياسية حازمة تعمل على ترشيد الدعم واتباع سياسات مالية حكيمة، وانتهاج برامج اقتصادية تؤدي إلى تخصيص المرافق والخدمات وإلزامها باعتماد معايير إقتصادية واضحة وتحسين كفاءة الإنتاج وتطوير البيئة الإقتصادية بما يعزز التنافس الحر في القطاعات الحيوية المختلفة.
نقلا عن الحياة