كثر الحديث في الأسابيع القليلة الماضية عن انعكاسات سلبية محتملة لتراجع أسعار النفط على الدول المصدرة، خصوصاً بروز حالات عجز في الموازنات.
وفي بلدان الخليج، التي تعتمد إيراداتها على مبيعات النفط، برزت مطالبات بتحصين السياسات المالية لتجنب الوقوع في عجز كبير والاضطرار إلى السحب من الاحتياطات وربما الاستدانة من الأسواق المالية المحلية أو الأجنبية.
لكن هل يستدعي الأمر هذا الفزع بعد تراجع سعر البرميل من مئة دولار إلى 81 دولاراً بين أول آب (أغسطس) وآخر تشرين الأول (أكتوبر)؟
معروف ان أسعار النفط خلال السنوات الخمس الماضية، أي منذ بداية الأزمة المالية العالمية آخر 2008، مرت بتقلبات محدودة وظلت تراوح في أعلى مستوياتها حول 115 دولاراً للبرميل وتدنت أحياناً، كما حدث في 2012، إلى ما دون 100 دولار.
وما جرى في الآونة الأخيرة والتراجع إلى المستويات الحالية يؤكد حقائق مهمة، منها ان سوق النفط تعاني ضعفاً في الطلب وتحسناً في الإنتاج لدى بلدان مستهلكة أساسية مثل الولايات المتحدة.
لكن هل يمكن افتراض ان أسعار النفط ستظل متجهة نحو الانخفاض خلال فترة زمنية طويلة أم يمكن ان نشهد تماسكاً وتحسناً في الأسعار خلال أسابيع أو أشهر؟
تمكنت الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة من رفع إنتاجها النفطي وخفض وارداتها من النفط بدرجة كبيرة، لكن هل يمكن لها ان تظل محصنة من الانكشاف على الخارج إذا استمرت الأسعار عند مستوياتها المنخفضة نسبياً أو تراجعت إلى مستويات أدنى؟
يقدَّر ان الولايات المتحدة رفعت إنتاجها من خمسة ملايين برميل يومياً عام 2008 إلى 7.4 مليون برميل يومياً عام 2013، ولا شك في ان الإنتاج من النفط الصخري ساهم في رفع الإنتاج الأميركي.
وانخفض استهلاك النفط في الولايات المتحدة من 21 مليون برميل يومياً عام 2006 إلى 18.5 مليون برميل يومياً الآن، كما عملت تطورات الإنتاج الوطني هناك على خفض الاستيراد من النفط إلى 30 في المئة من احتياجاتها.
وساهم التحسن في إنتاج النفط والغاز الصخريَّين في ظل أسعار عالية للنفط التقليدي في خفض الطلب على النفط المستورد من البلدان الأخرى المنتجة للنفط.
لكن هل يمكن ان يتراجع إنتاج النفط الصخري عندما تهبط أسعار النفط التقليدي إلى مستويات أقل مما هي عليه الآن؟
تنامى إنتاج النفط الصخري الأميركي عامي 2008 و2009 بعد الأزمة العالمية عندما تراجع سعر النفط إلى 50 دولاراً للبرميل، كما ان السعر الذي حصل عليه المنتجون لنفوطهم الصخرية تراوح بين 85 و90 دولاراً للبرميل، في حين كانت أسعار النفط العالمية تزيد عن 100 دولار للبرميل.
بناء على تطور تقنيات التنقيب والإنتاج، إذاً، ستظل الولايات المتحدة قادرة على إنتاج النفط الصخري وبأسعار مهاودة خلال السنوات المقبلة.
أما ما يمكن التعويل عليه لتعزيز الأسعار فهو تحسن الطلب العالمي، في أوروبا أو الصين أو البلدان الناشئة والنامية. كيف يمكن ان يحدث ذلك؟ لا بد من حدوث انتعاش اقتصادي حقيقي يرفع من مستويات التشغيل في مختلف القطاعات الاقتصادية في العديد من البلدان.
ويقدَّر الطلب على النفط خلال هذا العام بـ 92.5 مليون برميل يومياً، وتبلغ حصة الأميركتين 30.6 مليون برميل، ودول آسيا والمحيط الهادئ 30.7 مليون برميل، ودول أوروبا 14.3 مليون برميل، وبلدان الاتحاد السوفياتي السابق 4.7 مليون برميل، ودول الشرق الأوسط ثمانية ملايين برميل، والدول الأفريقية أربعة ملايين برميل.
إذاً فالدول الآسيوية، على رأسها الصين، تمثل أهمية للدول المصدرة للنفط. ويبلغ استهلاك الصين 10.3 مليون برميل يومياً وفق بيانات أيلول (سبتمبر) الماضي، وهو تحسن بنسبة 6.2 في المئة عن مستواه في آب (أغسطس) الماضي، كما أرتفع طلب الصين على النفط المستورد بنسبة 7.4 في المئة خلال الفترة ذاتها.
ويقدر استيراد الصين من النفط بأقل قليلاً من سبعة ملايين برميل يومياً. وخلال السنوات المقبلة ستكون الصين أكبر الدول المستوردة للنفط، متخطية الولايات المتحدة. وربما يتعدى الاستيراد مستوى سبعة ملايين برميل يومياً خلال 2015.
ستتجاوز سوق النفط التي سبق ومرت بمراحل صعود وهبوط على مدى العقود الخمسة الماضية، أزمة التراجع الراهنة أو قد تدفع البلدان المنتجة إلى التكيف مع أسعار أقل. وتظل «منظمة البلدان المصدرة للنفط» (أوبك) من أهم مصادر إمدادات النفط للبلدان المستهلكة، وهي تنتج حالياً 31 مليون برميل يومياً، وهو أعلى مستوى إنتاج خلال سنتين.
وعلى رغم بوادر عدم اتفاق بين دول المنظمة على تعديل الإنتاج، يمكن للبلدان المنتجة الأساسية في الخليج، السعودية والإمارات والكويت، ان تعمل لتحسين قدرتها على مواجهة الأسعار المعتدلة أو المنخفضة بمراجعة سياساتها المالية وترشيد الإنفاق، وهذه البلدان تمكنت من تحقيق فوائض مالية مهمة على مدى السنوات الماضية تمكنها من تحمل الأعباء.
وقد لا يمر وقت طويل قبل ان نشهد تعافياً في الأسواق، لكن هذا التعافي يجب ان يكون مقترناً بتعافي الاقتصادات الرئيسة، مثل الاقتصادات الأوروبية واقتصاد الصين وغيرها من بلدان أساسية في آسيا.
نقلا عن الحياة