تراجع أسعار النفط في الأسابيع الماضية بما يقارب عشرين بالمئة، فتح الباب حول تأثيرها على الدول المنتجة، كونه يشكل لغالبيتها الإيراد الرئيسي لخزينتها، وبما أن المملكة من كبار المنتجين والمصدرين للنفط والذي يشكل أكثر من 90 بالمئة من الإيرادات، فإن التقييم الأولي بالتأكيد سيظهر تأثيراً سلبياً عليها، وإن كان بسيطاً، كون التراجع بالأسعار جاء بآخر السنة المالية، بينما الأشهر التسعة الأولى كانت الأسعار بمستويات جيدة تم خلالها تحقيق إيرادات تغطي وتزيد عن الإنفاق المقدر بميزانية العام الحالي، بل إن تحقيق فائض بهذا العام بات محسوماً، لكن يبقى التخوف الذي ظهر خلال فترات التراجع عن مستقبل سعر النفط، وما هي المستويات التي سيقف عندها حتى يكون تقييم التأثير واضحاً؟.
وبما أن المؤشرات الأولية تظهر استقراراً للأسعار ما بين 80 إلى 90 دولاراً للبرميل، فإن الآثار السلبية المحتملة ستبقى محدودة عموماً، ويمكن التكيف معها بسهولة، بل إنه يمكن تحقيق فائض إذا ما تم استخدام سياسات مالية تضبط وترشد الإنفاق، ويبقى لحساب الخسارة النظرية عند المقارنة بين أسعار تتراوح حول 100 دولار والأسعار الحالية مسألة نظرياً صحيحة لكنها خاطئة إذا ما برحنا نقارن بين كل سعر مرتفع أو منخفض يحدث بسعر النفط وغير المستقر، كونه سلعة تخضع لعوامل السوق العرض والطلب، وإلا فإننا سنقارن حتى على أسعار فاقت 115 دولاراً بسنوات قليلة سابقة.
وبذلك لا يمكن الأخذ بعين الاعتبار مثل هذه القراءات لأنها غير منطقية في سوق تتغير ظروفه بفترات قصيرة، وتدخل في التأثير عليه مضاربات، إلا أنه تبقى لتركيبة السعر عوامل وأسس عديدة تبقيه بمستويات مرضية، لأن بعض هذه المؤثرات لا تتغير بسرعة، كبروز اقتصادات ضخمة أصبحت هي الأكبر من حيث نمو الطلب على الطاقة كالصين وغيرها، وكذلك التوسع بإنتاج النفط الصخري المرتفعة تكلفته، ومدى قدرته على منافسة النفط التقليدي، وهل هو مكمل لمقابلة الزيادة الكبيرة على طلب النفط، والمتوقع لها أن تستمر وقد تتعدى في غضون 15 عاماً القادمة حاجز 110 ملايين برميل يومياً، أي ارتفاع بالطلب يفوق 20 بالمئة عن الحالي، بمعنى أن الطلب سيستوعب المعروض إن لم يتفوق عليه، وهذا كله وفق بعض الدراسات.
وبالمقابل فإن دراسات أخرى ترى أن التوسع العالمي بإنتاج النفط والتحول لاستخدام طاقات بديلة سيكون له تأثير سلبي على مستقبل أسعار النفط، وفي كلتا الحالتين فإن التركيز على سعر النفط لن يكون هو الحل لاقتصادنا لتفادي أي أزمات أو تأثيرات من إيراداته. ولابد أن نشير إلى أن تركيز المملكة للمحافظة على حصتها بأسواق النفط يبقى أفضل من التركيز على مستوياته السعرية إلى حد كبير، لأن طبيعة المنافسة تبقى على حصص السوق، ولذلك من الأنسب أن تترك الأسعار لعوامل السوق، ومدى قدرة الاقتصادات الكبرى على النمو، الذي بدوره سيرفع من الطلب على النفط وسترتفع الأسعار أو تحافظ على مستويات جيدة تتناسب مع احتياجاتنا الاقتصادية.
كما قد يكون لذلك تأثير على نمو إنتاج النفط الصخري سلبيا، لكن باعتقادي، أن ترك تحديد الأسعار للغير أفضل من تبني التأثير عليها لأنه سيكون قائماً على خفض الإنتاج، وهذا سيفقدنا حصة بالسوق لصالح منتجين آخرين.
فمن الواضح، أن قواعد التعامل مع سوق النفط عالمياً تغيرت، ولابد أن تكون النظرة والتوجه من قبل المنتجين، وعلى رأسهم المملكة مواكبة هذا التغير بعيداً عن أي تحليلات حالية تحاول تفسير هبوط الأسعار. إلا أن القلق الحقيقي، على إبقاء زخم النمو الاقتصادي بالمملكة ليس من تراجع أسعار النفط، والحل لن يكون باستمرار ارتفاعها.
فالتوجه السليم يبقى نحو التسارع بخطوات الإصلاح الاقتصادي، من حيث تنويع إيرادات الخزينة العامة بطرق مختلفة، وكذلك بتوسيع قاعدة الإنتاج بالاقتصاد المحلي، والتوجه نحو تلبية الطلب المحلي من السلع والخدمات المنتجة محليا، والتصدير لمنتجات غير نفطية، وتنشيط القطاع الخاص بعيداً عن اعتماده على الإنفاق الحكومي على المشاريع، والذي قد يتغير بالسنوات القادمة، كونه من أدوات السياسة المالية لتحقيق العديد من الأهداف المرحلية، كاستيعاب تراجع أسعار النفط، وكذلك تخفيف الضغوط التضخمية، وذلك بطرق عديدة، كجدولة المشاريع على سنوات أطول من التقديرات الحالية، وكذلك لضمان القدرة على تنفيذها، كون أن أحد العوامل بتعثر المشاريع جاء من ضخامتها حجماً وعدداً، قياسا بالطاقة الإستيعابية الحالية للاقتصاد، التي كانت أقل من المطلوب إنجازه.
قد يكون الطرح التنظيري سهلا، بالحديث عن ضرورة تقليص الاعتماد على إيرادات النفط، لكن الحقيقة الدامغة بأنه لابد من الإسراع بالخطوات نحو ذلك، من خلال خطط واضحة وتنفيذ محكم.
فالمملكة قادرة على تحمل تراجع أسعار النفط، ولديها إمكانيات ووسائل عديدة ومريحة للتعامل معه ولسنوات طويلة نسبياً، نظراً لاحتياطياتها المالية الضخمة، وانخفاض الدين العام، لكن استغلال واستثمار الفرصة المتاحة لتنويع الإيرادات والإنتاج غير النفطي هو ما يلغي أي قلق حالي ومستقبلي من أي متغيرات بأسعار النفط ليتحول جل إيرادته، كاحتياطيات واستثمارات سيادية حماية لمكتسبات الاقتصاد الحالية وضمان لاحتياجاته المستقبلية.
نقلا عن الجزيرة
ابق على اطلاع بآخر المستجدات.. تابعنا على تويتر
تابِع