رغم التراجع الذي تشهده أسعار النفط غير أن المتوقع أن تحقق الخزانة العامة إيرادات تفوق 900 مليار ريال أي ما يفوق الانفاق المُعلن (855 مليار ريال) بداية العام، وذلك حتى في حال تراجع إيرادات النفط في النصف الثاني من العام الحالي (2014) تراجعاً ملموساً.
ومع ذلك يبدو أننا أمام مراجيح عاطفية، كانت تجسدها مشاهد الأفلام العربية القديمة ومُحب يمسك بوردة، وينزع أوراقها ورقة ورقة، قائلاً: بتحبني؟
ما بتحبنيش؟
وهناك مراجيح التنمية، التي يمسك بتلابيبها النفط، وتحديداً تأرجحات سعره وبالتالي حصيلتنا من عوائده.
ومع هبوط أسعار النفط منذ بداية النصف الثاني من العام الحالي (2014) والنقاش محتدم حول الحصيلة، وهل ستكون كافية أم سنعاني عجزاً؟
ثم "دوشتنا" الصحافة العالمية بالحديث عن نقطة التعادل المالي للدول المنتجة للنفط، وأصبحنا نرى خارطة منطقتنا وعليها نقطة التعادل المالي لكل دولة من الدول المنتجة.
ويبدو أن هناك من تأثر بصورة عاطفية بهذه الصور ونقاط التعادل فأخذ يرى أن الدول ستفلس إذا ما تراجع سعر البرميل إلى 80 دولاراً.
وأقول إن لكلٍ أجندة تعكس اهتماماته، واهتمامات الغرب تختلف اختلافاً كبيراً عن اهتماماتنا وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بالنفط، فنحن دول منتجة ونامية وأحادية المورد، ودولهُ مستهلكة (إجمالاً) ومتقدمة واقتصاداتها متنوعة، أضف لذلك تفاوت النظرة للنفط كسلعة استراتيجية وانعكاسات الظروف الجيوسياسية عليها.
في مقالة مسهبة نشرتها صحيفة الشرق الأوسط مؤخراً، كتبها وائل مهدي الصحفي في وكالة بلومبرج والمتخصص في شؤون النفط عن وزير النفط السعودي المهندس علي النعيمي، بين فيها كرهه للقلق.
وبدون مجاملة لأحد، فسوق النفط تحتاج دائماً أيادي راسية ومستقرة تماماً كيَدّ جراح العمليات الدقيقة، تجده يضع في الخلفية موسيقى هادئة بصوت خافت، ليس لاهتمامه القاتل بالموسيقى بل ليضفي جواً هادئاً خالياً من التوتر بما يجعل الجميع يركز على نجاح العميلة وسلامة المريض.
وهكذا، فقد نجحت التقارير الصحفية عن نقطة التعادل النفطي أن تأخذنا بـ"الطوشة"، كما سبق لها النجاح من قبل مرات ومرات.
وإلا فالخزانة العامة السعودية تنفق -خلال الحقبة الراهنة- إنفاقاً عالياً غير معتاد؛ بهدف تحقيق التنمية الشاملة والمتوازنة، بما في ذلك استكمال وتحديث البنية التحتية في كل أنحاء المملكة، وهذا يتصاحب مع برامج وطنية لبناء المدارس التربوية القادرة على مساندة التعليم، وجامعات في كل أنحاء المملكة، ومستشفيات عامة ومرجعية ومراكز رعاية صحية أولية، وإطلاق عدد من المبادرات لتعزيز الاقتصاد في المناطق بما ينمي قدراتها الإنتاجية وبالتالي يسهم في تنويع اقتصادنا الوطني، مثل مدينة جازان الاقتصادية والميناء ومصفاة النفط والتي تتيح مجالاً واسعاً لنمو صناعات البتروكيماويات ولا سيما المتخصصة بما يتيح فرصة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة الدخول في مجال الصناعة البتروكيماوية أو الصناعات والأنشطة المساندة، وكذلك ما ينطوي عليه وعد الشمال من مبادرات ستؤدي -بإذن الله- في حال تنفيذها لتوليد فرص توظيف واستثمار.
وهكذا، فالإنفاق المرتفع وغير المعتاد لن يستمر إلى ما لا نهاية، بل سيأخذ مناحي أخرى، إذ أن جهود التنمية شهدت تباطؤاً وتعطلاً خلال فترة ممتدة، وبالخصوص في النصف الثاني من الثمانينات وكل عقد التسعينيات، وقد انتهجت الحكومة الموقرة مبكراً نهجاً، يمكن تسميته تعويضياً للتسريع في تحسين مستوى البنية التحتية لتوسيع الطاقة الاستيعابية للاقتصاد من جهة، والارتقاء بمستوى الخدمات الاجتماعية والشخصية بما في ذلك المدارس المستأجرة والمراكز الصحية غير اللائقة والمستشفيات المتهالكة.
والتحدي الآن هو تنفيذ المشاريع التنموية التي حددت لها مخصصات على مدى سنوات الخطة الخمسية التاسعة، واستكمال البرنامج التنموي التطويري الطموح لخادم الحرمين الشريفين، وقد وضعت ملامح تفصيلية لهذا البرنامج في وثيقة مستقبل الاقتصاد السعودي؛ وهي خطة طويلة المدى استلت منها الخطة الخمسية التاسعة، وتتبعها -فيما أفهم- العاشرة كذلك.
فالحرص على عدم توقف هذا البرنامج هو الأساس، باعتبار أنه سيحقق النقلة النوعية من الناحية التنموية والاقتصادية لاسيما فيما يتصل بتنويع الناتج المحلي الإجمالي، ومساهمة الصناعة التحويلية غير النفطية في الناتج المحلي الإجمالي.
ومن غير المتصور أن تعاني الخزانة عجزاً يمنعها من إكمال البرنامج التنموي والاقتصادي الطموح والضروري، حتى في حال تدني السعر لحدود 60 دولارا للبرميل، الذي يمكن اعتباره خطا أحمر، حتى لا تضطر الخزانة للجوء للاحتياطيات.
وتلخيصاً، فسعر النفط ليس هو مصدر القلق، فالأمر الذي يستوجب استبسالاً هو الدفاع عن حصة البلاد من انتاج النفط، إذ أن معظم الدول الأعضاء في أوبك أكثر تحرقاً واندفاعاً وحاجةً للدفاع عن الأسعار.
وعلى كل حال، وعلى الرغم من تأثير المملكة في سوق النفط العالمية إلا أنه ليس بوسع طرفٍ التحكم بتلك السوق، فقد أثبتت في مناسبات عديدة أنها خارج السيطرة، أما تنمية البلاد وتنويع اقتصادها عبر بذل كل الجهد لاستكمال البرنامج التنموي، فهذا هو التحدي الذي يجب ألا نبرحه حتى لا يبرحنا، فنجاحنا الاقتصادي يقتضي إكماله بدون تباطؤ أو توقف، بل بحماس وجسارة وثقة.
نقلا عن اليوم