لا شكَّ أن هناك آثارًا سلبية ستترتب على أيّ تراجع إضافي في أسعار النفط الخام، فالاعتماد شبه الكامل على إيراداتنا النفطية يعني أنه، وفي ظلِّ النمو المستمر في معدلات الإنفاق الحكومي، فقد وصل هذا الإنفاق إلى مستويات عالية جدًا تنذر بعودة العجز في ميزانية الدَّولة في عام 2015م.
إلا أن ما يطمئن أنه لا مخاطر من حدوث تراجع حاد في أسعار النفط الخام العالمية، فمعظم النمو في إنتاج النفط خلال السنوات القليلة الماضية يأتي من النفط غير التقليدي، كالنفط الصخري في الولايات المتحدة الأمريكية، والتكلفة العالية جدًا لإنتاج هذا النوع من النفط يعني أنه لن يكون من المجدي استمرار إنتاجه في حال تراجع أسعار النفط إلى ما دون 80 دولارًا للبرميل، بالتالي حتَّى وإن تراجعت أسعار النفط الخام فإنّها ستظل في الغالب عند مستوى الـ80 دولارًا للبرميل وأي تراجع دون ذلك سيكون قصير الأمد وستعاود الأسعار ارتفاعها من جديد.
في المقابل هناك آثار إيجابيَّة في غاية الأَهمِّيّة يمكن أن تترتب على هذا التراجع في أسعار النفط الخام على المدى الطويل قد تكون حتَّى أكبر وأهم من مكاسبنا الآنية المترتبة على حصولنا على إيرادات نفطية عالية، ويمكن إيجاز هذه المكاسب بالتالية:
1 - استمرار نمو إيراداتنا النفطية نتيجة ارتفاع أسعار النفط وحجم إنتاج المملكة خلال ما يزيد على عقد من الزمن وإن كان أخرجنا من ضائقة ماليَّة حادة استمرت على مدى عقدين فإنه قد تسبب أيْضًا في زيادة اعتمادنا على إيراداتنا النفطية بصورة أضرت كثيرًا بجهود تنويع مصادر الدخل الذي يحمل أضرارًا في غاية الخطورة على المدى الطويل.
فرغم ما قد يبدو من إيجابيَّة كبيرة لهذه الوفرة الماليَّة إلا أنها تجعلنا أقل استعدادًا وأقل قدرة على مواجهة مرحلة ما بعد النفط التي قد تكون أقرب مما قد يتصوره البعض.
من ثمَّ فتراجع إيراداتنا النفطية ليس بسبب تراجع الأسعار فقط وإنما أيْضًا نتيجة تراجع حجم إنتاجنا النفطي كوننا سنكون مضطرين لذلك حتَّى يتقلص فائض العرض في السوق سيجعلنا بالضرورة أكثر جدِّية في تفعيل جهود تنويع مصادر الدخل وتقليل اعتمادنا على القطاع النفطي وترشيد الإنفاق الحكومي.
2 - إن تراكم الفوائض الماليَّة لدى الدَّولة التي يتجاوز حجمها الآن 2.5 تريليون ريال يظهر بشكل جلي أننا ننتج نفطًا يزيد عمَّا يتلائم مع حاجتنا الماليَّة وأننا اضطررنا لذلك حتَّى لا يتسبب نقص المعروض النفطي في ارتفاع كبير في أسعار النفط يؤثِّر سلبًا على الاقتصاد العالمي الذي لا يزال يعاني من آثار أزمة المال العالميَّة التي حدثت في عام 2008.
بالتالي، فارتفاع إنتاج النفط غير التقليدي وإن كان قد تسبب في تراجع أسعار النفط الخام إلا أنه سيضطر المملكة لتخفيض إنتاجها ما يسهم في إطالة عمر احتياطياتها النفطية كما يجنبنا تكاليف ماليَّة باهظة جدًا كانت ستكون ضرورية لرفع طاقتنا الإنتاجيَّة لتأمين حاجة السوق العالميَّة من النفط.
3 - إن ضخامة إنتاجنا النفطي وبما يزيد كثيرًا عن حاجتنا الماليَّة تسبب في حدوث طفرة كبيرة نتج عنها بالضرورة نمو مبالغ فيه في الإنفاق الحكومي.
فالإنفاق الحكومي في المملكة الذي لم يتجاوز 295 مليار ريال عام 2005م وصل في عام 2013 إلى 925 مليار ريال، أيّ بزيادة هائلة بلغت نسبتها 213 في المئة في 8 سنوات فقط، أيّ أنه ارتفع بمتوسط سنوي بلغ 27 في المئة، ومن المؤكد أن هذا الإنفاق سيتجاوز هذا العام حاجز الـ «الألف مليار ريال».
وحيث إنه من الصعوبة بمكان أن يستوعب اقتصاد ما مثل هذه الزيادة الكبيرة في الإنفاق الحكومي، وفي مثل هذه الفترة الوجيزة، فقد كان من الطّبيعي أن ينتج عنه ارتفاع كبير في معدلات التضخم وفي قيم الأصول العقارية والمالية، وأن ترتفع تكلفة المشروعات على الدَّولة بصورة حدت بشكل كبير من كفاءة وجدوى هذا الإنفاق، كما تسبب في زيادة حدة التفاوت في مستويات المعيشة وتفاقمت مشكلاتنا الاقتصاديَّة.
لذا من الضروري جدًا وقف هذا النمو في الإنفاق العام، بل حتَّى بذل كل جهد ممكن للحد من معدلاته الحالية لترتفع كفاءته وجدواه ويصبح هناك مجال أوسع للقطاعات الأخرى في الاقتصاد لتنمو وتضطلع بدور أكبر في النشاط الاقتصادي وفي توظيف الموارد البشرية، وكل ذلك متعذر ما لم نضطر إلى ذلك بسبب تراجع إيراداتنا النفطية.
4 - إن هذا التراجع في إيراداتنا النفطية وما سيترتب عليه بالضرورة من تراجع في حجم الإنفاق الحكومي وبالتالي تدن في مستويات السيولة المحليَّة سيفقد الضغوط التضخمية المحليَّة الوقود الذي أوقد شعلتها خلال السنوات الماضية فتتراجع بشكل كبير.
وفي ضوء التردد الواضح في فرض رسوم سنوية على الأراضي غير المستغلَّة ضمن النِّطاق العمراني للمدن فإنَّ هذا الخيار قد لا يصبح ضروريًا على أية حال، فشح السيولة المحليَّة سيضغط على أسعار العقارات للتراجع بشكل كبير ما يزيد من قدرة قطاع واسع في المجتمع على حل مشكلتهم الإسكانية مع تراجع أسعار الأراضي، بحيث تصبح رسوم الأراضي مطلوبة فقط إن كانت الدَّولة بحاجة إلى تفعيل مصادر إيرادات أخرى الذي قد يكون ضروريًّا مع تراجع إيرادات النفط.
5 - هذه الوفرة الماليَّة جعلتنا نتراجع عن جهود تحقيق اعتماد أكبر على العمالة المواطنة وقبلنا بدلاً عن ذلك بالسعودة الوهمية الذي من العجيب أنها تمول في الغالب من موارد صندوق التنمية البشرية في واحدة من أغرب أشكال الهدر المالي، وفتحنا باب الاستقدام على مصراعيه فتضخم عدد العمالة الأجنبية بشكل كبير جدًا لا تعكس حقيقته الأرقام المعلنة لعدد العمالة الأجنبية بالمملكة.
وتراجع إيراداتنا النفطية سيجعلنا أكثر جدِّية في التعامل مع هذه المعضلة الخطيرة، وسيضطرنا إلى تبني برامج توطين حقيقية بدلاً من برامج تُشجع على التوظيف الوهمي وتزيد من الاستقدام غير الضروري، كما حال برنامج نطاقات الذي تسبب في تشوهات خطيرة في سوق العمل السعودي قد يستغرق إصلاحها سنوات طويلة.
من ثمَّ حتَّى وإن تصورنا أن ارتفاع أسعار النفط وتضخم حجم إنتاجنا النفطي وضع إيجابيّ نخشى من تغيره، إلا أن ذلك يمثِّل نظرة قاصرة تركز فقط على وضعنا المالي في المدى القصير وتتجاهل الفرص الضائعة والأضرار الاقتصاديَّة الهائلة على المدى الطويل المترتبة على كلّ ذلك، ما يجعلني أقول وتردد معي الأجيال المقبلة:
مرحبًا بتراجع الأسعار وخفض إنتاجنا النفطي.
نقلا عن الجزيرة
ابق على اطلاع بآخر المستجدات.. تابعنا على تويتر
تابِع
مقاله رائعه اوصي بقرائتها. شكرا للدكتور
صحيح تكلفة الانتاج للبترول الصخري تتراوح بين 70-80 دولار إلا أن الأنتاج تنخفض تكلفته الى 40 أو 50 دولار مع الإستمرار في الإنتاج.........الهدف من إنتاج البترول الصخري الأمريكي هو الأمن الإقتصادي وأمن الطاقه ومن ثم تأتي التكلفه!
شكرا كالعادة يادكتور / السلطان ....مقال عميق ووافي للموضوع من كافة جوانبه ...أشكرك
مقالك قائم على فرضية بقاء العوامل الأخرى ثابتة بدون تغيير.