يبدو أن الارتفاع الكبير والمستجد في الانتاج النفطي، وبشقيه التقليدي (الاحفوري) والصخري (الذي يعتمد تقنية "التكسير الهيدروليكي")، ستفرض حسابات جديدة على المنتجين التقليدين، وتحديدًا لجهة السعر المناسب لبرميل النفط ومدى توازنه مع متطلبات الميزانيات الاقتصادية الخاصة بكل دولة منتجة.
وتعكس منظمة الدول المصدّرة للنفط (الأوبك)، المسؤولة عن حوالي ثلث الانتاج العالمي اليومي للنفط، الكثير من النقاشات الساخنة في هذا الاطار، حيث ينظر بعض أعضاء المنظمة بتفاؤل إلى مستقبل الصناعة النفطية ، في حين ينظر قسم آخر ومعه عدد من الخبراء بنوع من الحذر اذا ما استمر جمود الطلب عند عتبة 89 مليون برميل يوميًا.
لا شك في أن المتغيرات الجيولوجية، عبر ظهور كميات نفطية هائلة من مصادر غير تقليدية، والسياسية بفضل فك عزلة مجموعة من الدول واستعادة موقعها على خارطة الانتاج العالمي للنفط وفي مقدمها إيران والعراق، أعادت خلط الأوراق حول مستقبل الصناعة النفطية.
ولعل الايجابية الأبرز في هذه المتغيرات، أنها ستثّبت زعامة النفط كمصدر رئيسي وأساسي للطاقة أقلّه حتى منتصف القرن الجاري، وهو ما تشير اليه دراسات كل من وكالة الطاقة الأمريكية ومنظمة أوبّك.
لكن في المقابل، ثمة مستقبل غير واضح المعالم تجاه المنتجين التقليديين ، وعلى رأسهم منظمة "أوبّك".
فبحسب هؤلاء، إن معدلات الانتاج الحالية المواكبة للطلب العالمي، والتي تصل إلى نحو 90 مليون برميل يوميًا، وبالأسعار الحالية التي تتراوح معدلاتها بين الـ90 والـ100 دولار للبرميل، تتناسب مع متطلباتهم التنموية وموازناتهم الاقتصادية.
بينما يرى قسم آخر أن الأسعار الراهنة تتحمل هامشًا أقل يصل إلى معدلات الـ80 دولارًا للبرميل، وهؤلاء بدورهم يؤكدون على أن مثل هذه الاسعار ستساهم في استعادة النمو الاقتصادي العالمي عافيته والخروج من مرحلة "التعافي الهش".
ولكن السؤال الذي يتجنب طرحه كثيرون، والذي يطرحه بقوّة عدد من خبراء الاقتصاد وخبراء النفط، هو ما الذي يكفل تجنب الهبوط الحاد لأسعار النفط في ظل وفرة المعروض، وهو ما كان حدث أساسًا منذ بضع سنوات وقبل الكشف عن الوفرات النفطية الراهنة؟
*المصدر : أوبّك-غلوبال
هل تعود حقبة النفط الرخيص؟
يشير تقرير صدر مؤخرًا عن شركة "بيت الاستثمار العالمي" (غلوبال)، إلى أن الزيادة الكبيرة في الانتاج النفطي خلال المرحلة المقبلة، لن تكون خالية من المخاطر في ظل جمود الطلب العالمي عند عتبة الـ89 مليون برميل يوميًا. وما يعزز هذه التوقعات، هو استمرار حالة "التعافي" الهش" لعدد من اقتصادات منطقة اليورو، وفي مقدمهم فرنسا واسبانيا.
وما يزيد من صعوبة المشهد الاقتصادي العالمي، هو عدم قدرة الصين على تخطي عتبة النمو الاقتصادي نسبة 7.5 في المئة؛ في حين أن المطلوب أن لا تقل هذه النسبة عن 8 في المائة كي يستعيد الاقتصاد العالمي توازنه.
وهذا يعني بوضوح، أن رهان المنتجين في الوقت الحالي ليس على ارتفاع الطلب للنفط، نتيجة الأسباب المشار اليها، بل هو مدى الحفاظ على معدلات الطلب الحالية، وبالأسعار السائدة! ومع ذلك، لا تبدو المؤشرات المستقبلية وفق رغبة المنتجين؛ أولاً لجهة الانتاج الذي يتوقع أن يشهد زيادة اضافية تفوق الـ15 مليون برميل يوميًا في المدى القريب، وتتوزع حصصه كل من الولايات المتحدة الامريكية، وايران، والعراق، وليبيا؛ وهذه النسبة مرشحة للارتفاع مع تطورات الواقع الجيو-سياسي، وعندها من الطبيعي أن تشهد الأسعار مزيدًا من الانخفاض.
ثانيًا لجهة التعافي الاقتصادي البطيء، حيث لا تزال اقتصاديات الدول الكبرى أسيرة البطالة وانخفاض نسب النمو الاقتصادي؛ والأخيرة مرشحة للتراجع أو أن تبقى على حالها في أحسن الاحوال، وبخاصة لكل من منطقة اليورو والصين، وهذا بدوره يعيق تحفيز النمو الاقتصادي العالمي أيضًا.
*المصدر : غلوبال-مؤسسة النقد الدولية
هاجس آخر يطرح نفسه على أوبّك وغيرها من الأوساط النفطية والاقتصادية، ويتمثل في الحال التي ستكون عليه أسعار النفط اذا ما قررت الصين استخراج احتياطاتها النفطية الصخرية، والمقدرة بأنها الأعلى في العالم؟! وهذا ما لا يبدو بعيدًا، حيث تتقاطر الشركات الصينية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بهدف تعزيز خبراتها في تقنيات استخراج النفط الصخري واستثمارها في الصين.
وقد عبّر عن ذلك صراحة كبار مسؤولي شركة "بترو شينا"، أكبر شركة نفط صينية. وفي هذا السياق، لا يخفي الأمين العام لمنظمة الدول المصدّرة للنفط (أوبّك) عبدالله البدري، القلق من التحدّيات التي تفرضها طفرة الانتاج النفطي حاليًا على أسعار النفط مستقبلاً، وكان قد عبر في إحدى تصريحاته الصحفية مؤخرًا، بالقول : "لا يبدو العام 2014 صعبًا، ولكن قد تكون الأعوام اللاحقة كذلك".
دور أوبّك المستقبلي: تنسيق الاستمرارية
لقد بات واضحًا أن تداعيات "الواقع النفطي الجديد"، تستدعي التوضيح حول الدور المستقبلي لمنظمة اوبّك، فهل تنجح المنظّمة في الحفاظ على دورها الوازن عالميًا في صناعة النفط؟ أم سينحصر هذا الدور نتيجة العوامل المستجدة، فتتركز على تلبية الطلب الاقليمي- الآسيوي فقط؟
حتى الآن لا تزال تصريحات كبار المسؤولين في "أوبّك"، تحمل نبرة تفاؤلية تجاه الطفرة النفطية الراهنة، ويؤكدون على أنها فرصة لتطوير قطاع صناعة النفط وتعزيز مكانته كموردٍ رئيسي للطاقة في مقابل الموارد الأخرى كالطاقة النووية، ومصادر الطاقة المتجددة...الخ. لكن ثمة حذر مرافق لهذه النظرة، وهو ناجم عن الاستغناء التدريجي لصادرات "أوبّك" النفطية، وبخاصة من الولايات المتحدة الأمريكية، أكبر مستهلك للنفط والأخيرة معلوم أنها تتحضر لأن تصبح أكبر منتج للنفط في العالم! أما الرهان على أن الطلب الآسيوي سيعوّض عن "الاستغناء الأمريكي"، فهذا معلّق على شرط أن لا تباشر الصين باستخراج احتياطها النفطي كما سبق بيانه.
وعليه، لن تستطيع اقتصادات كل من اليابان أو الهند الآسيويين استيعاب كل المعروض لمنظّمة "أوبك"؛ بل إن تقرير صادر عن منظمة الطاقة الأمريكية، يذهب للقول بأنه حتى مع الاخذ في الاعتبار بارتفاع الطلب على النفط في منطقة الشرق الأوسط، والمتوقع ان يصل إلى نحو 9 مليون برميل يوميًا، فإن ذلك لن يؤدي إلى استيعاب كامل العرض المقدم من "أوبّك".
وبهدف تحصّين دورها، تشير التقارير المذكورة وغيرها من المرجعيات إلى أن العامل الأهم الذي يفترض لمنظّمة اوبّك التركيز عليه هو تجنب الخلاف حول حصص الانتاج. فحاليًا، ثمة "شهية" واضحة لدى عدد من أعضاء المنظّمة لضخ كميّات انتاج إضافية من النفط، وتحديدًا الذين هم في طور استعادة موقعهم على خارطة الانتاج (إيران، ليبيا، العراق)، أو يرغبون في زيادة حصتهم (نيجيريا)، والهدف الأساسي لذلك طبعًا هو حاجة هذه الدول الاقتصادية الى ايرادات نقدية اضافية.
وبالطبع، فإن مثل هذا السيناريو سيتطلب إما تنازلاً من المنتجين الكبار في المنظمة عن بعض حصصهم، هذا ان تقرر البقاء على سقف الانتاج الحالي، أو أن يتخلى هؤلاء عن مشاريع انتاج مستقبلية لصالح المنتجين الجدد في حال قررت المنظّمة زيادة الانتاج. وهذا ما يفترض التزام دول "أوبّك" باستراتيجية واضحة تضمن وحدتها فوق كل اعتبار ، وتحفظ تاليًا موقعها بوصفها "صمّام أمان امدادات الطاقة".
*المصدر: أوبّك 2013
*المصدر: أوبك 2013
لا شك في أن رهان الاستمرارية لمنظمة "أوبّك" بات أكثر ارتباطًا بخياراتها المستقبلية قبل أي عامل آخر.
أما تأثير الطفرة النفطية الحالية على دورها المستقبلي، فهذا قد يكون ممكنًا ومحصورًا على المدى القصير والمتوسط، انما يبدو صعبًا على المدى البعيد في ظل استحواذ المنظمة على ما يزيد من 80 في المئة من احتياطات النفط العالمية المؤكدة، والمقدرة بنحو 1.500 مليار برميل.