قد لا نتفق مع تفاصيل تقرير صندوق النقد الدولي الذي صدر الأسبوع الماضي، لكنه وضع يده على النقاط الجوهرية.
ولن أسهب في تناول موضوع النفط وتأثيره فقد أصبح من المسلمات، رغم أن تراجع سعره يضع ضغوطاً حقيقية على التوجه للاحتياطي لتمويل العجز الذي قد ينتج عن ارتفاع الانفاق التنموي أو الناتج عن اضطراب الأوضاع في منطقتنا الحبلى بالأحداث.
وبعيداً عن النفط وعلى صلة بالتنويع الاقتصادي، تناول التقرير أمراً محورياً وهو قضية البطالة، التي لعلها -بدون مبالغة- تمثل معضلتنا الاقتصادية العنيدة، فقد قدرت الخطة الخمسية التاسعة أن تستهلك تنمية الموارد البشرية خلال سنوات الخطة (2010-2014) ما قيمته 731.5 مليار ريال، أي ما يتجاوز نصف الانفاق المتوقع خلال مدى الخطة، مما يبين أن ملف تنمية وتوظيف الموارد البشرية المواطنة يستغرق المقدار الأهم من الانفاق الحكومي.
والتحدي الواضح أمام المخطط الاقتصادي ومنفذي السياسات الاقتصادية والمالية هو خفض معدل البطالة، ورغم تعدد مساعي الحكومة لضبط البطالة واقرارها لاستراتيجية التوظيف السعودية التي تهدف -ضمن أمور أخرى- السيطرة على البطالة، إلا أن معدل البطالة مازال مرتفعاً عما كان عليه عند إعلان وثيقة الخطة الخمسية التاسعة، فقد قدرت مصلحة الاحصاءات العامة والمعلومات السعودية معدل البطالة بين السعوديين عند 10.5 بالمائة في العام 2009، العام الأول للخطة.
ولا بد من الاقرار أن الحكومة خطت خطوات عديدة لتنمية الموارد البشرية (جانب الطلب) بما في ذلك جهود وزارة العمل وصندوق تنمية الموارد البشرية، ومبادرات تطوير التعليم وإنشاء المزيد من الجامعات في جنبات المملكة بما ضاعف عددها ثلاثة أضعاف خلال ثلاث سنوات وابتعاث عشرات الآلاف من المواطنين والمواطنات لإكمال دراساتهم الجامعية والعليا في الخارج، ويضاف لذلك البرامج التدريبية والتأهيلية المتعددة، ليرمي كل ذلك في خانة الارتقاء بمخرجات التعليم العام والعالي والمتخصص بما يحسن قابلية توظيف الموارد البشرية المحلية.
ومع ذلك يبقى جانب التوظيف (العرض) هو التحدي العنيد، إذ مازال نزيف إهدار الفرص الجديدة التي يولدها الاقتصاد السعودي مستمراً نتيجة عدم السيطرة على آليات العرض التي ألفت -فيما يبدو- استقدام العمالة.
فوتيرة الاستقدام هذه تمثل تحدياً لما استهدفته الخطة الخمسية التاسعة (2014-2010) من توليد 1.220 مليون فرصة عمل، أي بمتوسط سنوي قدره 244 ألف وظيفة سنوياً، يشغل 224 ألفاً منها بمواطنين ونحو 20 ألفاً فقط بوافدين!
كما كانت الخطة الخمسية التاسعة تستهدف خفض معدل البطالة بين المواطنين إلى 5.5 بالمائة في نهاية العام 2014، والمعدل مازال ضعف ذلك رغم أن الخطة في شوطها الأخير.
وتسعى استراتيجية التوظيف السعودية ليس فقط «انشاء فرص العمل اللازمة لمواكبة النمو السكاني السريع» بل كذلك الاحلال محل العمالة الوافدة، كما أن الاستراتيجية تسعى لجعل الموارد البشرية السعودية عنصراً أساساً في اكساب الاقتصاد السعودي ميزة تنافسية، لاسيما أن الحكومة قد طلبت تقويماً لتنفيذ الاستراتيجية بعد مرور ثلاث سنوات.
ويمكن بيان أن هناك معضلة تتفاقم، وتتمثل في التالي:
• أعداد العمالة الوافدة في تصاعد.
• تكلفة العمالة الوافدة في تزايد بما يزيد من الضغوط على الحساب الجاري.
• البطالة بين المواطنين (وخصوصاً المواطنات) عالية، تتجاوز 11 بالمائة.
وبالتأكيد فإن استمرار هذه المعضلة لا ينسجم مع المستويات القياسية من الانفاق لتحديث وتوسيع البنية التحتية، ولا مع مستويات الانفاق القياسية لتنمية الموارد البشرية، إذ أن سوق العمل والأجور المكتسبة فيه هي الوعاء الأهم في أي اقتصاد. ويمكن الجدل أن ضبط وإزالة الارتباك من سوق العمل المحلية يمثل «معضلة الاقتصاد السعودي» لاسيما أن الحكومة تنفق أموالاً طائلة لتنمية الموارد البشرية تتجاوز 50 بالمائة من الانفاق العام كما سبقت الإشارة، والاقتصاد يمول فاتورة عمالة وافدة تقارب 150 مليار ريال سعودي سنوياً، والاقتصاد ينمو ويخلق المزيد من فرص العمل أغلبها يذهب للعمالة المستقدمة.
ورغم أن مبادرات وزارة العمل حركت الساكن وما كان مسكوت عنه، وقطعت أشواطاً في توظيف المزيد من السعوديين والسعوديات، غير أن التوظيف مازال تحدياً عنيداً يتطلب خطوات عميقة، تتجاوز عمومية المبادرات «الوطنية» إلى تدخلات جراحية على مستوى المنطقة والمدينة والبلدة، والسبب أن سوق العمل محلية بطبيعتها؛ أي ما تشكو منه جدة وما قد يصلح لعلاج شكوى سوق العمل فيها، قد لا يصلح للرياض أو للدمام، كما أن هناك بلدات تشكو من عدم وجود اقتصاد محلي فيما عدا بعض الدوائر الحكومية التي يشكل إنفاق موظفيها كل اقتصاد البلدة! ولذا فإن معالجة المعضلة لن تتمكن من أن تقوم به وزارة واحدة مهما حاولت، فهي لا تمتلك كل الأدوات، كما أن الحلول العامة لن تجدي كثير نفع، إذ لابد من تشخيص تشوهات أسواق العمل المحلية وعلاج كل منها بما يلائمه.
نقلا عن اليوم