في أي مجتمع للإسكان أهمية فائقة باعتبار أن السكن يمثل المأوى والملجأ والسقف الذي تلتئم تحته الأسرة، فهو ستر لها ومستقر.
كما أن السكن، إن كان ملكاً، فهو مستودع للقيمة وحصالة للادخار. وعند تناول أي مشكلة معقدة، فلا مناص من تفكيكها إلى مكوناتها، والعمل على حلّ كل منها.
وعند النظر لما يسمى بأزمة الإسكان عندنا، فنجد أن هناك من يريد أن يحشر كل التفاصيل في زاوية متلبدة بالعُقَدّ، وبذلك تصبح الرؤية سوداوية وليس فقط ضبابية؛ لدرجة أن يخرج عليك أحدٌ ويقول: لدينا شح في الأراضي!
عندما نسمع مقولة من هذا النوع، فمن الملائم أن يتلفت الشخص حوله والتأكد مَنّ المقصود؛ فبلدنا قارة وعدد السكان ثلاثون مليونا بما فيهم الوافدون. وكما سبقت الإشارة أن الأراضي السكنية البيضاء تنافس الأراضي السكنية المعمورة عدداً ومساحةً، فكيف يصبح لدينا ندرة في الأراضي السكنية؟!
طرح هذه الأراضي السكنية البيضاء (المعضولة) يتطلب تحديث السياسات وإصدار قرارات إدارية. لا تذهب بعيداً بل تصور الحي الذي تقطن فيه، وأطرح السؤال: ما الذي يمنع أبوفلان وأبوفلتان من تعمير أراضيهما؟ ستتعدد الإجابات، ولعل الرابط بينها عدم توفر الحافز، والحافز ممكن أن يكون إيجابياً (ترغيب) أو سلبياً (ترهيب) أو مزيجا منهما معاً.
فإن أوجدنا حوافز كافية لأبي فلان وأبي فلتان فقد يبيعان الأراضي لمن يدفع لهما سعراً مناسباً، أو قد يعمرانها في حال توفر التمويل، أو يدخلان بها شركاء لاستثمارها.
في كل الحالات ستكون النتيجة إيجابية في حلّ أزمة السكن، من حيث توفير المزيد من الوحدات، وبذلك نزيد العرض ليستوعب الطلب وخصوصاً على الوحدات الاقتصادية.
وفي حالات، فقد يكون أبوفلان وأبوفلتان غير متجاوبين مع كل الحوافز الإيجابية، فهما يصران أن يبقيا الأراضي يلفحها الهواء وتحرقها حرارة الشمس، ففي تلك الحالة تضع عليهما عبئا بتحميل الأرض غرامة، تتعدد أسماؤها والقصد واحد وهو دفع مالك الأرض لتعميرها أو بيعها لمن سيعمرها.
أما في وضعنا الحالي، فخيوط متداخلة تجعلنا نتوهم أن الاشكال في ندرة الأراضي! وهذا أمرّ لا يُعقل، أما الأمر الذي يعقل فهو أن نضع سياسات تُخرج قطع الأراضي البيضاء من محابسها. وأدرك أن هناك من يعارض التدخل في ذلك، باعتبار أن إخراج الأراضي السكنية بيضاء من محابسها يعني التحرش بمصلحته، لكن فاته أن مهادنة المصالح الخاصة أمر يتعارض مع المصلحة العامة ويحدث لنا أزمات لا مبرر لها.
وهناك قوانين حاكمة تطبق لإنصافه دون التضحية بالمصلحة العامة، وإلا أصبح حديثنا بتقديم المصلحة العامة والحفاظ عليها مجرد «سواليف»، ولاسيما أن الإصرار أن إطلاق تلك الأراضي من محابسها هو لحلّ أزمة جوهرية في تحقيق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، لاسيما أن ارتفاع ايجار المنازل هو العامل الأول في رفع تكاليف المعيشة (التضخم) عندنا، وفوق ذلك فإن طرح المزيد من الوحدات السكنية للتمليك سيحقق هدفاً مهماً للمجتمع ولأفراده وهو رفع نسبة تملك السعوديين للمساكن باعتبار أنها منخفضة، فأكثر من مليون أسرة سعودية تسكن في بيوت مستأجرة.
أما من يظن أن تفكيك وحلّ عقدة السكن سيتحقق دون المساس بالوضع الراهن القائم على إهدار مورد عزيز وغالٍ ومؤثر وهو الأراضي السكنية المخططة البيضاء، فهناك ما يبرر القول إن ظنه يرتكز إلى غير أساس، إذ أن استحداث سياسة «لملء الفراغات» سيعني عملياً طرح أعداد كبيرة من المساكن في السوق، وفي مواقع مأهولة ومخدومة، وبذلك نوجد سوقا للمساكن فيه قوى عرض وطلب، وليس ما هو قائم الآن، عرض محدود يتيح للملاك فرض السعر الذي يرغبونه.
وهذا لا يتعارض مع حرية البيع والشراء وتفاوت الأسعار من حي لآخر، بل كل ما سيحدث أننا لن نوجد تجمعات للاسكان في مناطق نائية ونحن نملك خيارا أفضل وغير مستخدم داخل المدن.
لكن لا بد من أن تقوم وزارة الإسكان ووزارة الشئون البلدية والقروية من السعي لتحديث واستكمال السياسات المتعلقة بالأراضي البيضاء من جهة، والسعي لإيجاد حلول تمويلية من جهة أخرى بهدف إيجاد حوافز وقوة دافعة كافية ليخرج الملاك صكوك الأراضي البيضاء من محابسها وإدخالها السوق إما ببيعها لمن سيعمرها أو استثمارها مع من سيعمرها أو تعميرها، بمعنى أن مالك الأرض حتى يكسب عليه أن يعمرها بصورة أو بأخرى أما إن أبقاها «بيضاء» فلن يحقق له ذلك مصلحة، بل قد يدفع غرامة عدم استخدام الأرض فيما خصصت له أو غرامة إعاقة التنمية الحضرية أو غرامة إهدار مورد!
وبالتأكيد، ليس ملائماً أن نطلب من أصحاب الأراضي إخراجها من محابسها ثم عدم توفير التمويل لعمارتها، وبذلك نشرك الأهالي والقطاع الخاص للمساهمة إيجابياً في التصدي لأزمة السكن لتصبح أثراً بعد عين، أما إن بقينا على سياسات «المداراة»، فأزمة الإسكان تتبدد بتوفير المزيد من المساكن على تفاوتها وفي جميع البقاع المأهولة في المملكة.
نقلا عن اليوم