يقوم التحكيم بناء على رغبة وإرادة الأطراف، وهذه الرغبة الإرادية من أهم أعمدة التحكيم لأن الأطراف برغبتهم وطوعهم واختيارهم يقررون اللجوء للتحكيم لحسم كافة المنازعات التي تطرأ بينهم. ووفق القانون فان التحكيم يعتبر من أهم البدائل المشروعة لتسوية المنازعات.
ولقد تبين جلياً، أن من ضمن الأسباب التي تجعل الأطراف يختارون التحكيم أن اختيار هيئة التحكيم، في العادة يخضع لرغبتهم، من ضمن أشخاص تتوفر فيهم الكفاءة والخبرة والنزاهة.
هذا إضافة إلى أن حسم النزاع يتم في زمن قصير وأقل بكثير من زمن التقاضي، وهو قابل للتنفيذ الجبري بواسطة المحاكم المختصة.
عندما يريد الأطراف اللجوء للتحكيم لحسم المنازعات التي تطرأ بينهم، فيجب عليهم إبرام عقد أو “اتفاق التحكيم”.
وهذا الاتفاق يعتبر الأساس الذي يقوم عليه هيكل بناء التحكيم، وكلما كان الأساس سليما كذلك يكون البناء القائم عليه سليماً. ولذا يجب التنبيه إلى ضرورة العناية الفائقة عند إعداد وصياغة اتفاق التحكيم، وبالتالي فان عدم بذل العناية قد تنجم عنه الكثير من المشكلات والزلات التي تقود للتهلكة، وهذا يهدم كل بناء التحكيم وكل ما به من محتويات.
وعليه، فلا بد من الحذر والتأكد من أن اتفاق التحكيم المبرم بين الأطراف سليم ومتكامل ويفي بالغرض المنشود نحو تحقيق العدالة التي يتطلع لها الأطراف ويترقبون بحماس نتائجها في أسرع وقت.
ولكن من التجارب العملية فقد تبين أن إعداد وإبرام اتفاق تحكيم يخلو من “المآخذ” قد يعتبر من الأمور شبه المستحيلة إن لم نقل مستحيلة.
وفي النهاية هذا من عمل البشر، ويا سبحان الله من الكمال لعمل البشر. ومن دون شك، معظم البشر يتعلم في كل يوم، وعلينا الاستفادة من التجارب السابقة وتجاوز ما نتج عنها من أخطاء أو لنقل “هنات”.
ومن التجارب العملية العديدة التي مرت بها غرفة التجارة الدولية بباريس للتحكيم، تبين أن اتفاق التحكيم وفي حالات عديدة كان غير متماسك الأساس والبناء مما قاد إلى نتائج عكسية وخلاف توقعات الأطراف الذين هرعوا بأرجلهم و بطوعهم واختيارهم وإرادتهم للتحكيم.
ومن الأمثلة، نشير إلى فقرة اتفاق التحكيم التي تنص على أن “يخضع هذا التحكيم لقانون أو نظام محكمة التحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية”.
وهذا النص ضروري جداً ومفيد للغاية لربطه اتفاق التحكيم بالمؤسسية التحكيمية التابعة لغرفة التجارة الدولية، ولكن نفس هذا النص المفيد نجده في بعض الحالات يخلق مشكلة “عويصة” قد تعصف برغبة الأطراف وتؤدي إلى ما لا يحمد عقباه.
والمشكلة تأتي بارزة للعيان، في حالة إذا ما تم تعديل “هذا القانون أو النظام” في نقاط قد تكون جوهرية جداً، وهي خارج نطاق اعتبار الأطراف عندما أبرموا اتفاق التحكيم. ولكم أن تتصوروا ماذا يحدث، من لبس، إذا تم تعديل قانون محكمة التحكيم؟
وفق قانون محكمة التحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية الساري، وكقاعدة زمنية عامة، يجب إصدار الحكم خلال فترة 6 أشهر، ما لم يتفق الأطراف على الزيادة، ولكن لنفترض إجراء تعديل لهذه الفقرة الخاصة بـ”القاعدة الزمنية” بعد إبرام اتفاق التحكيم بين الأطراف وتم زيادة الفترة الزمنية “القاعدة الزمنية” لتصبح 12 شهراً.
فهل يؤخذ هنا بالفترة الزمنية أثناء إبرام العقد وهي 6 أشهر أو بالقاعدة الزمنية الجديدة وهي 12 شهراً، والتي تم وضعها بتعديل القانون في أثناء نظر المحكمة للدعوى. فهل نتقيد بالعقد وهو شريعة المتعاقدين وأن الأطراف عند إبرام العقد كانوا يرغبون في تسوية النزاع خلال الفترة الزمنية التي كانت سائدة، ويعرفون أنها 6 أشهر، أثناء إبرام اتفاق التحكيم؟ أو نتقيد بالقاعدة الزمنية الجديدة خاصة وأن اتفاق التحكيم يشير إلى خضوع “هذا” التحكيم لقانون أو نظام محكمة التحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية بباريس، أي وفق الفترة الزمنية الجديدة في القانون المعدل، وهي 12 شهرا؟
والأمثلة الخاصة بتعديل القانون والتي تؤثر على اتفاق التحكيم المبرم بين الأطراف كثيرة، ومنها نذكر ما يتعلق بعدد أعضاء هيئة التحكيم أو كيفية تعيينهم ومسار عملهم أو الرسوم المقررة أو مكان التحكيم… أو غيره من التعديلات التي تهز أركان اتفاق التحكيم أو تؤثر بدرجة مباشرة على محتويات اتفاق التحكيم المبرم سابقا بين الأطراف ولم يخطر ببالهم مثل هذه التعديلات الجديدة الجوهرية والتي كانوا سيضعونها في الاعتبار قبل اللجوء لخيار التحكيم لتسوية منازعاتهم. والتحكيم خيار الأطراف “الذهني” بحيث يمثل البديل المختار لتسوية النزاع وفق مفاهيم ذهنية معينة في ذلك الوقت …
نظرت محكمة التحكيم في قضايا عديدة تتناول هذه النقاط المؤرقة وكانت أحكامها في عدة حالات بعكس توقعات الأطراف وبعيدا عما كان يجول بـ”ذهنهم”، ولسنا هنا للتعقيب على ما وصلت إليه هذه المحكمة لأن هدفنا ليس النظر فيما أصدرته المحكمة بل ينحصر في ضرورة إعداد وصياغة عقد “اتفاق التحكيم” بصورة تجعله بعيداً من التفسيرات والأحكام العكسية الصادرة من المحكمة التي تنظر في النزاع. والقرار بالطبع، يعود لما توصلت إليه المحكمة وفق عقيدتها وضميرها.
إذا رجعنا مثلا للفقرة المعنية في اتفاق التحكيم والتي تنص علي أن… “يخضع التحكيم لقانون أو نظام محكمة التحكيم الدولية…”، نلاحظ أنها فقرة عامة جدا وفضفاضة ولا تشير من قريب أو بعيد إلى أي فترة زمنية خاصة بوقت إبرام اتفاق التحكيم أو ما يحدث أثناء نظر الدعوى، خاصة وأن التغيير “القانون” إذا تم سيكون له مردود بعيد. وقد يكون مناسبا مثلا إذا تمت الإشارة لجملة “أثناء إبرام هذا الاتفاق” وإضافة هذه الجملة “المقيدة” للنص الذي يشير لقانون محكمة التحكيم… إذا تم إضافة مثل هذا التقييد والتحديد للفقرة فان القاعدة الزمنية المتفق عليها ستكون هي تلك الفترة الزمنية التي يتضمنها القانون أثناء إبرام عقد اتفاق التحكيم وليس أثناء سير الدعوي إذا تم تعديل الفترة الزمنية في القانون. وهكذا الأمر.
لذا فان التحوط واليقظة من الأمور المهمة جداً عند إعداد صياغة عقد اتفاق التحكيم وذلك من أجل تقييد الأحكام المتفق عليها وعدم تركها سائبة وفضفاضة تحتمل عدة أوجه للتفسير والتطبيق.
والأمثلة التي تدل على عدم إحكام ربط اتفاق التحكيم كثيرة وبعضها كان من الممكن تلافيه بالقليل من الحرص عند وضع الأساس للتحكيم. والغرض فيما نصبو إليه يعود للوصول بالتحكيم إلى غايته العليا في تحقيق العدالة السريعة بين الأطراف التي تلجأ إليه بإرادتها الذاتية.
وسنتطرق تباعا لبعض الأمثلة السالبة في بعض اتفاقيات التحكيم بغرض لفت النظر للتقويم والاستفادة مما ورد فيها من هفوات نطمع في تجاوزها لرفد صناعة التحكيم المتنامية كأحد أفضل البدائل لتسوية المنازعات.
نقلا عن جريدة عمان