مشكلة الصناديق ومؤسسات الإقراض الحكومية السعودية رغم كثرتها وتنوعها، أنها تفصل أثوابا بمقاس واحد يجب على الجميع أن يرتديه باختلاف مقاساتهم وأوزانهم وأحجامهم صيفا أو شتاء، ومشكلتها الأخرى أنها قطار بلا كوابح، ليس له إلا محطة واحدة، ومن يقوده لا يستطيع أن يتحكم بسرعته ولا محطات وقوفه، ولا يصغي لنداءات الركاب الذين حجزوا لمحطات مختلفة خلافا للمحطة الأخيرة والتي يتوقف عندها هذا القطار بسبب نفاد الوقود.
صندوق التنمية الزراعية، صندوق الموارد البشرية، وصندوق المئوية، بنك التسليف والادخار، الصندوق الصناعي، الصندوق العقاري... كل هذه الصناديق وغيرها تقدم قروضا قصيرة ومتوسطة وطويلة الأمد، وتقوم بتمويل بعض المشروعات، لكنها تواجه مشكلات جوهرية، إما بفشل ذريع لتلك المشروعات سواء استثمارية أو اجتماعية، أو تحويل القروض من قبل المقترضين إلى مجالات استهلاكية، وعدم الوفاء بسداد تلك القروض، وعدم قدرة المقترضين على الانخراط بالدورة الاقتصادية الشاملة، وبقائهم في مديونيات لا تنتهي وتزيد عدد الفقراء والمهمشين.
هذا المستنقع من الفشل لا يمكن أن نتهم به المقترضين، حتى لو كان بعضهم كذلك، إنما المتهم الأول بهذه المشكلة، هو تخطيط البرنامج العام الذي تكرره تلك الصناديق والذي لا يفرق بين ثقافة العمل في منطقة زراعية مثل الجوف، والأحساء، وثقافة العمل في مناطق صناعية مثل الدمام أو ثقافة عمل في مناطق الحج والعمرة، أو ثقافة العمل في مناطق بترولية أو ثقافة العمل في مناطق رعوية، أو ثقافة العمل في مناطق بحرية، لا تستطيع أن تقدم مشروعا زراعيا لأناس ثقافتهم لم تألف الزراعة، ولا تستطيع أن تقدم مشروعا صناعيا في بيئة وثقافة عمل لم تألف سوى المهن التجارية.
لا أعرف مشروعا تمويليا واحدا قام به أي من هذه الصناديق، تم تصميمه للاستثمار في زراعة وصناعة وتجارة الزيتون في الجوف، ولا أعرف مشروعا استثماريا واحدا تم تصميمه لزراعة صناعة وتجارة المانجا في جازان، أو مشروعا تم تصميمه لصناعة خدمات الحج والعمرة في بيئة وثقافة المناطق المقدسة، أو مشروعا لصناعة وتجارة التقنية.. كل الصناديق تقدم مشروعات تفترض أن رأس المال فقط هو كل شيء. كلهم يفترضون أن البطالة ناتجة فقط عن عدم توفر السيولة. وأن العصا السحرية لنجاح أي مشروع هو المال.
الطامة الكبرى التي تقع بها تلك الصناديق مع المقترضين وأصحاب المشروعات الممولة، هو عدم قابلية التعديل بالاستجابة لملاحظات المستفيدين، أثناء التطبيق وبعد إطلاق المشروعات، فمن المعروف ومن المطلوب أن هناك مستجدات تطرأ على المشروعات أثناء التطبيق، ومن الطبيعي بل ويجب الأخذ بالاعتبار هذه المستجدات ووضع خطط بديلة أحيانا وميزانيات لها، لضمان نجاح المشروع، إلى درجة أن نهاية المشروع في نهايته قد تختلف عن مسارها الذي انتهت إليه الدراسات.
ما يجعل تلك الأخطاء مريرة، هو كثرة تلك الصناديق والتي تستنسخ تجارب بعضها بعضا، في دوائر من تكرار أخطاء «الخبراء» خاصة تلك القناعات المتكلسة المبنية على أن حل مشكلة الناس استثماريا واجتماعيا هو بتوفير المال، وأن ضخ المزيد من المال يكفي تلك الصناديق عناء البحث ومشقة الأسئلة والوقوف ميدانيا على ثقافات العمل في كل مجتمع من المجتمعات المحلية وإعداد منتجات اجتماعية واستثمارية تتلاءم مع ثقافات العمل المجتمعية وتعكس تفاعلات مكونات تلك الثقافات انطلاقا من المعطى الاقتصادي المحلي.
أخيرا، قد يكون المال عاملا محوريا، ولكن لا تقدموا عربة المال على حصان ثقافة العمل.
نقلا عن عكاظ