(ولا تفسدوا في الأرض…..) (الآية) فيها توجيه وأمر رباني واضح بالابتعاد عن الفساد، كل أنواع الفساد ممنوعة لمضارها المتعددة، ولكن الفساد رضينا أم أبينا انتشر وعم وملأ الأرض والبحر وظهرت نتائجه السيئة على كل المجتمعات.
وللنهوض ضد وباء الفساد أصدرت هيئات الأمم المتحدة مواثيق ومعاهدات دولية تحظر الفساد وكل ما يرتبط به أو ينتج عنه، كما تم وضع القوانين في كل الدول لمحاربة الفساد والوقوف في وجهه وتمت محاكمة الكثير من المفسدين ولكن الوباء ظل في انتشار متواصل ويدخل عبر عدة مسامات وبشتى المسميات.
وتظل الحرب ضد بعبع جرائم الفساد لا نهائية، كالحرب بين الخير والشر المستمرة من بداية الخليقة، ولكنها يجب أن تستمر وبكافة الوسائل. يجب أن نحارب لننتصر في هذه الحرب لنرقى بمجتمعاتنا، وهذا ليس مستحيلا بل في مقدورنا وبكل تأكيد.
من الأسلحة الفعالة جدا في الحرب ضد جرائم الفساد، في رأينا مع الآخرين، انتهاج واتباع مبادئ الحوكمة (قفرننص) في كل مرافقنا الخاصة أو العامة من الشركات المساهمة والشركات العائلية والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة وكل المرافق الحكومية والمؤسسات العامة… ولتكون الحرب ضد جرائم الفساد عامة وتامة كما يجب الالتزام بتطبيق مبادئ الحوكمة في كل المرافق كبيرها وصغيرها وبشتى أشكالها، وكلما كان التطبيق عاما كانت هزيمة الفساد أسرع وأكثر كفاءة ومردودا.
إن مبادئ الحوكمة (قفرننص) تقوم على فلسفة أساسها تحمل المسؤولية وتطبيق مبدأ المساءلة على الجميع من قمة الهرم إلى أسفله.
كل فرد من الجميع يكون مسؤولا وتتم مساءلته القانونية عن هذه المسؤولية بكل شفافية يراها الجميع.
وهذا المنهج الشفاف يشكل أول طعنة في جسم الفساد، لأن من يقوم بتحمل تنفيذ المسؤولية يضع نصب أعينه المساءلة التي تنص عليها الحوكمة ولهذا يتجنب الفساد لأنه سيسأل قانونيا عما قام بفعله ويتم فضحه للملأ.
إن جميع أفعال (المسؤول) في الشركة أو المؤسسة، وفق مبادئ الحوكمة، يجب أن تتحلى بدرجة عالية من الشفافية وبإفصاح تام ومن دون أي مواربة خاصة وأن العمل في الضوء يبعد الشبهات ويمنع التصرفات غير السليمة وكل هذا يدرأ الفساد وجرائمه…
ومن هذا الوضع الشفاف يستفيد المساهم في الشركات المساهمة ويستفيد أفراد الأسرة في الشركات العائلية ويستفيد كل أصحاب العلاقة والمستهلك والمجتمع بأكمله، وفي ظل متطلبات هذا الإفصاح يهرب الفساد الذي كان موجودا نظرا لأن حضرة (المسؤول) كان يعمل كما يشاء ووقت ما يشاء وهو الكل في الكل ولا أحد يسأله. والسلطة المطلقة، كما يقولون، تقود إلى الفساد والإفساد.
ومبادئ الحوكمة تمنع السلطة المطلقة المفسدة وتسعى بكل جهدها نحو المؤسسية لأن الجميع يشارك، أو يسأل عما تم في أي وقت، وخاصة في أثناء الاجتماعات العامة أو الخاصة وعبر مختلف الوسائل حتى العامة لعلم الجميع. وبهذا تكون كل خطوات (المسؤول) معروفة الاتجاهات ومدروسة العواقب… وهذا يخنق الفساد.
مبادئ الحوكمة تشترط الإفصاح التام الشفاف عن كل الأمور المتعلقة بأموال الشركة وكل التصرفات المالية والحسابات، وهناك ضوابط للتنفيذ وضوابط للرقابة بشقيها الداخلية والخارجية، وهناك لجان للتعيين والمكافآت ولجان للتنفيذ ولجان للتدقيق والمراجعة بغرض التوجيه الإشرافي والمراقبة اللصيقة لكافة أوجه الصرف في كل الأموال والمشروعات، وكل التعيينات والمستحقات شاملة من رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي وكل الطاقم الوظيفي.
ومن هذا مثلا تتم المراقبة الفعالة للعطاءات والمزايدات وترسية المشروعات وإبرام العقود، وتنشر المعلومات الصحيحة والبيانات الضرورية للجميع عبر كل الوسائل المتاحة وعبر مواقع الشركة أو المؤسسة، وتوظيف العاملين بكافة طبقاتهم الوظيفية، وتحديد المسؤوليات الإدارية والمالية لمجلس الإدارة ومجلس المديرين وكل المسؤولين حتى يتم التصرف وفق الصلاحيات فقط وعدم تجاوزها… وبتطبيق هذه الخطوات الجميلة التي تنادي بها الحوكمة نمنع الفساد.
وأيضا بالحوكمة يجب التأكد من وضع الخطط والبرامج المستقبلية، في الشركات العامة والخاصة والعائلية، وذلك وفق مقتضيات المصلحة العامة ومصلحة الشركة وملاكها مع تجنب كافة المخاطر وكل ما يعرض الحقوق للخسائر والضياع، مع وضع الضمانات التي تكفل الالتزام بالتنفيذ مع التدريب والتحديث والتطوير كلما طرأت الحاجة … وهذه الإجراءات في مجملها تقود إلى الإدارة الرشيدة وفق المتطلبات والتسلسل المؤسسي السليم بعيدا عن المصالح الشخصية الذاتية الضيقة… وكل هذا يجفف منابع الفساد ويعمل على قفل الباب تماما في وجه الفساد الذي يجد الفرصة للنمو فقط عندما تطغى (الأنا) وتبتعد المؤسسية والإدارة الرشيدة الجماعية النابعة من مبادئ الحوكمة.
وفق مبادئ الحوكمة يجب علي كل مسؤول في الشركة الالتزام شخصيا بالعمل لصالح الجميع وتجنب تضارب المصالح وإيثار مصلحته الشخصية على مصلحة الآخرين وأيضا الامتناع عن كشف أسرار الشركة لأنه مؤتمن عليها.
والسعي لتحقيق المصالح الشخصية وكشف الأسرار فيه فساد ويسبب أضرارا جسيمة للآخرين، والحوكمة تمنع هذه التصرفات الأنانية الجشعة وتقفل هذا الباب منعا للفساد والتلاعب بحقوق الآخرين والإثراء على حسابهم، وهم في غفلة أو من القاصرين أو ناقصي الأهلية أو بعيدين أو مبعدين لأي سبب.
إضافة إلى أن مثل هذا الفساد، وبصفة خاصة، يضر بالمستهلك الذي سيحرم من تقديم العمل له عبر الأفضل وليس عبر من (بيده القلم) الذي يسخر العمل لتحقيق مصلحته الخاصة، وأنا أو الطوفان.
ومن الجدير بالذكر أن الحوكمة تنادي بإدخال أطراف مستقلة في مجالس الإدارة واللجان المختلفة على أن يتم اختيارهم وفق شروط محددة تهدف إلى (مزج) السلطة بين أياد متنوعة المصالح، من ضمنها صاحب المال المساهم ومن ضمنها أيضا من لا يملك المال.
ومن هذا المزج الخليط يتم تحقيق نوع من التوازن بين المصالح الخاصة وتلك العامة لأن العضو المستقل لا يتأثر في قراراته بما يملكه من مال في الشركة بل يقرر وفق ما تقتضيه المصلحة العامة سواء كانت لعامة المساهمين أو لعامة الجمهور. وفي هذا المزج (خلخلة) لمراقد الفساد لأن النظرة في كل قرار تكون لتحقيق المصلحة العامة وليس لفئة معينة تملك المال والسلطة وتعمل على استغلال هذا الوضع لاكتناز المزيد من الأموال وزيادة الفساد والإفساد.
إن التنفيذ السليم لمبادئ الحوكمة، التي أشرنا لبعضها، سيساعد من دون شك في محاصرة الفساد والمفسدين ودحرهما وبتحقيق هذا نكون نفذنا فلسفة الحوكمة.
ولذا يتوجب علينا الالتزام التام بانتهاج الحوكمة كأداة فعالة لمحاربة الفساد، وذلك ليس كوسيلة لإضافة (مكياج) تجميلي للشركة أو المؤسسة ولكن كهدف سامٍ نؤمن بمخرجاته ونستفيد منها في حربنا الضروس ضد الفساد.
وعلينا كلنا الاصطفاف بعزيمة لمحاربة الفساد الذي ينهش في مجتمعنا، وهذا بيدك وفي مقدورك عند تطبيق مبادئ الحوكمة في شركتك أو مؤسستك حتى ولو كانت صغيرة أو كنت في البداية. وعبر هذه الوسيلة ستشارك في محاربة الفساد، وهذا اضعف الإيمان، ولتبدأ بالحوكمة ضد الفساد…
نقلا عن عُمان