من حيث المحصلة النهائية، لا يختلف واقع ودور وحجم القطاع العام في دول مجلس التعاون الخليجي عن نظرائه في العديد من الدول العربية التي انتهجت خلال عقود الستينات والسبعينات والثمانينات نهج الاقتصاد المخطط.
فبحكم تحكم الدولة في موارد النفط، وبالتالي دفة النفقات العامة في دول المجلس، تربعت الأجهزة الحكومية على عرش الاقتصاد الوطني ليس في مجال الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة والإسكان والكهرباء وغيرها، بل حتى في مجال العديد من الأنشطة الاقتصادية كالبنوك وشركات الأغذية والتأمين والفنادق وحتى العقارات.
لقد أفضى ذلك إلى تضخم كبير في وظيفة ودور القطاع العام في دول المجلس بحيث بات اليوم يستنزف نسبة تتراوح بين 60 و 80% من الموازنات المالية لهذه الدول، حيث تذهب على شكل مصاريف متكررة للرواتب والصيانة والتوسع في الخدمات الأساسية وغيرها.
وفي مواجهة هذا الواقع، تتفاوت الحلول المطروحة في التعامل مع القطاع العام في دول المجلس.
ففي حين يطلق فريق من الاقتصاديين دعوات للتسريع في تنفيذ برامج التخصيص، يطلق فريق آخر دعوات التحديث والتطوير الاداري لهذا القطاع من أجل تحسين أدائه وزيادة كفاءته وفعاليته، ليثبت جدارته وسط المتغيرات الاقتصادية الاقليمية والعالمية، لذلك بات الحديث عن التحديث الاداري متزامنا مع الحديث عن التخصيص.
ولا شك في ان الحديث عن التحديث الاداري هو حديث هام وقائم بذاته لا سيما اننا في مرحلة جديدة تسيطر عليها قيم العولمة والانفتاح الاقتصادي والتحرير والاتفاقيات التجارية الدولية، وبالتالي فان قضية التعامل مع القطاع العام سواء من حيث الدور أو الحجم تعتبر من القضايا الهامة.
ونحن نميل أكثر للحديث عن إعادة النظر في دور وحجم القطاع العام في دول المجلس باتجاه إعادة تنظيمه وتحديثه ورفع كفاءة الأداء للوصول الى أقصى درجات الفاعلية والإنتاج في القطاع الحكومي.
إن فكرة التحديث الاداري أصبحت ضرورة في ظل المتغيرات الكثيرة وظهور الاساليب الادارية المتطورة التي تسعى اليها المجتمعات الحديثة لتحقيق احتياجات مواطنيها وزبائنها.
وبالنسبة للمصالح الحكومية، فان التحديث الاداري ربما ينصب في المقام الاول على سرعة انجاز العمل وتسهيل معاملات المواطنين مع مختلف الجهات الرسمية.
لذلك فان تبني هذا الاتجاه من قبل دول المنطقة يجىء في وقته المناسب وفي هذه المرحلة المهمة من الشوط الحضاري الذي قطعته.
ويعتمد هذا التحديث -بطبيعة الحال- على الاهتمام بتوفير الكفاءات الوطنية التي تأتي من خلال التنمية البشرية، وهي من السياسات التي قطعت فيها دول المنطقة شوطا كبيرا وبرزت نتائجها بشكل خاص في السنوات الخمس الماضية.
ويمتد ذلك الى تطوير المناهج الدراسية في كافة مراحل التعليم من الابتدائي الى الجامعي، وتعزيز البرامج والمعاهد التدريبية، وتحديث موادها حسب الامكان بما يعني احتياجات سوق العمل.
ويرتبط التحديث الاداري -الى حد كبير كذلك- بما توصلت اليه تكنولوجيا المعلومات من وسائل حديثة تتميز بتوفير السرعة والاتقان والجودة في أداء الأعمال.
وفي المجتمعات المتقدمة، تقوم القيادة العليا بتحديد الرؤية المستقبلية ويتولى كبار المسئولين وضعها موضع التنفيذ.
وتم تحديد هذه الرؤية في معالجة شئون المواطنين بالوسائل المبسطة والسريعة، الأمر الذي لقي ترحيبا من جانب المواطنين كأداة لتحقيق تطلعاتهم.
إننا الآن بحاجة الى مراجعة وتقييم الوضع الاداري الحالي، أولا للتعرف على ما يحتاج الى إصلاحه وتطويره ومن ثم تحديثه على شكل خطوات متكاملة أو متلاحقة حسب طبيعة العمل في كل جهاز ومستوى الأولويات الملحة.
وبعد التعرف على تلك الاحتياجات علينا وضع البرامج الكفيلة باحداث التغيير المطلوب وتحقيق أهدافه وهذا يقودنا الى عدة اسئلة: هل الخلل موجود في الانظمة والادارات ام في التنظيم الاداري او في الكفاءات الادارية او انه في كفاءة استخدام الاجهزة الادارية او نظم المعلومات. لان هذه المكونات هي المنظومة لاي جهاز وهذه الخطوة لا بد منها لانها الاساسية كعملية تشخيصية يأتي بعدها العلاج. بمعنى ان نحدد المعوقات والمشكلات اولا، اضافة الى ذلك يجب التعرف على الوحدات اللازمة لاستكمال التنظيم الاداري للجهاز الحكومي، كي يتم بعد ذلك وضع المتطلبات الأساسية لرفع أداء الأجهزة الادارية.
كما يجب تحديد متطلبات رفع الأداء الحكومي الهامة الأخرى والمتمثلة في اعتماد مبدأ المحاسبة والمكافأة والثواب والعقاب في ضوء نظام تقييم فعال وعادل للموظفين في مختلف المستويات.
فعدم ايمان الموظف بعدالة المسئول الذي يقيمه يؤثر بشكل سلبي على الأداء. كما أن توافر إمكانية التظلم أمام جهة قضائية يعتقد الشخص في عدم تحيزها المسبق ووقوفها مع المسئول يعتبر حاجة ضرورية لا غنى عنها.
كذلك توجد ضرورة للتأكد من وضع الرجل المناسب في المكان المناسب ما يتطلب الاعتماد على معيار الكفاءة، والكفاءة فقط في قرارات التوظيف والترقية واعتماد مبدأ الشفافية في كل القرارات الخاصة بالموظف في كل ترقية وتوظيف، وعلى متخذ القرار ان يكون ملزما من الناحيتين القانونية والادارية باطلاع الجميع على الأسباب التي اعتمدها في اتخاذ قراراته ما يتيح لمن يعتقد في انطباق الشروط عليه تقديم تظلمه وانصافه في حالة وقوع غبن من أي نوع عليه.
وتبرز هناك أهمية لتشكيل محكمة ادارية عليا تنظر في القضايا التي تخص الجهاز الحكومي، وتوافر هذه المحكمة يمكن ان يشكل صمام أمان وحماية للموظف والمسئول على حد سواء.
وقد أبرزت التجربة السابقة أهمية قيام الأجهزة الحكومية بتحديد فترة زمنية للوظائف التنفيذية وبشكل محدد لفترة يتم في نهايتها تقييم أداء هذا المسئول وفتح المجال لمن يعتقد بتمتعه وايفائه بمتطلبات وشروط الموقع التنفيذي لتقديم طلبه ما يساعد الجهاز الحكومي في اختيار أفضل العناصر، ويساهم في حفز من يقع عليها الاختيار في شغل المنصب بالعمل على تحقيق أهداف الجهاز المسئول عنه وتطويره من أجل ان يرفع امكانية التجديد له في هذا المنصب.
نقلا عن جريدة اليوم