إن الاقتصادات الأكثر تقدماً على مستوى العالم، والتي تُعَد الولايات المتحدة أكبرها وأكثرها أهمية على الإطلاق بالنسبة للنظام بالكامل، تواجه مجموعة من الخيارات السياسية والاجتماعية العصيبة. والواقع أن الميزانية الأمريكية التي اقترحها الرئيس باراك أوباما تُـقِر بهذه الخيارات والمقايضات وتتعامل معها بشكل مباشر وكامل للمرة الأولى في فترة ما بعد الأزمة.
ويُعَد اقتراح أوباما وثيقة مهمة وصريحة وتتسم بالشجاعة السياسية. وسوف تحدد المناقشة اللاحقة إلى حد كبير ما إذا كانت الولايات المتحدة الآن تسعى إلى التحول نحو نمط قوي وشامل ومستدام للنمو وتشغيل العمالة أم لا، وكيف سيتم تقاسم العبء المترتب على الانتقال إلى مثل هذا المسار بين الأمريكيين من مختلف الأعمار،ومستويات التعليم والدخول والثروات.
ونحن نعلم أن قوى السوق التكنولوجية والعالمية العاتية كانت سبباً في تقليص عدد الوظائف المهنية الروتينية ووظائف الطبقة الكادحة، وتحويل خيارات العمل بالنسبة لأبناء الطبقة المتوسطة نحو الجانب غير القابل للتداول من الاقتصاد، وتوجيه النمو في الدخل القومي نحو رأس المال والوظائف العليا، في ظل ركود الدخل في أماكن أخرى. وتظل القدرة على توفير فرص العمل ضعيفة، وتستمر عملية التوظيف في التباعد عن النمو.
ولكن لا يجوز لنا أن نحمل الخيارات السياسية الرديئة أو الحكومة القصيرة النظر المسؤولية كاملة عن هذه الاتجاهات. فهي ناشئة في الأساس عن المشهد التكنولوجي المتحول لاقتصاد عالمي متكامل بشكل متزايد؛ ولكنها تفاقمت بفعل نمط منظم من نقص الاستثمار في القطاع العام.
والدرس المستفاد من العديد من الدول المتقدمة والنامية هو أن نقص الاستثمار في البنية الأساسية، ورأس المال البشري، والمؤسسات، والمعرفة الاقتصادية، والقاعدة التكنولوجية من شأنه أن يعمل على تقليص النمو في الأمد البعيد. ومن الممكن دعم النمو في الأمدين القصير والمتوسط لبعض الوقت من خلال الاستعاضة عن الدين العام والخاص بالاستثمار ــ وهذا يعني الاقتراض في مقابل الدخل والاستهلاك في المستقبل. ولكن هذا النهج يؤسس لنمط ذاتي التقييد، لأن الموازنات العمومية مخربة، والطلب متعثر؛ ولابد من تعديل التوقعات نزولا.
ويقودنا هذا إلى الخيارات التي تجسدها ميزانية أوباما. فأولاً هناك المسألة المرتبطة بمدى سرعة تقليص العجز الحكومي والديون العامة المتراكمة. وقد يؤدي الانكماش المالي المفاجئ إلى خفض الطلب الكلي المحلي بسرعة أكبر من قدرة تقليص مديونية الاقتصاد والتحولات البنيوية على الحلول في محله، وهو ما يعني بالتالي خنق النمو والوظائف، فضلاً عن التأثير السلبي على عجز الموازنة. ولكن تأخير التعامل مع الديون لفترة أطول مما ينبغي من شأنه أن يقوض الثقة في قدرة الحكومة الأمريكية على تحقيق الانضباط المالي.
ولابد أن يهبط العجز في غضون خمسة إلى عشرة أعوام. والبديل هنا إما أزمة ديون سيادية، يعقبها ارتفاع مدمر في تكاليف الاقتراض، أو تنامي الأعباء على الجيل القادم من دافعي الضرائب.
في عالم مثالي، حيث لا توجد ضرورة للتنازلات والحلول الوسط، فإن السياسة المالية في الولايات المتحدة كانت لتظل محافظة على التزاماتها المنصوص عليها في نظام الرعاية الاجتماعية، حتى على الرغم من العوامل الديموغرافية وغيرها التي تعمل على دفع التكاليف إلى الارتفاع (وخاصة تكاليف الرعاية الصحية). وكانت لتحافظ أيضاً على مستويات الاستهلاك الحالية وتتجنب الزيادات الضريبية، في حين تعالج النقص أوجه القصور في الاستثمارات العامة من أجل تعزيز النمو وتوسيع خيارات العمل بالنسبة لأبناء الطبقة المتوسطة اليوم وأجيال المستقبل. وأخيراً، ما كان ليُطلَب من أجيال المستقبل تحمل عبء إعادة التوازن كاملا.
من الواضح أنه من المستحيل التوفيق بين كل هذه الأهداف. ولكن من الإنصاف أن نقول إن بعض الإصلاحات ــ بما في ذلك الضريبية، والتنظيمية، والمرتبطة بتدابير الرعاية الصحية ــ سوف تساعد في استعادة التوازن من دون فرض تكاليف إضافية كبيرة على القطاع العام. ولكن هذه الإصلاحات لا تكفي لإعادة التوازن إلى الاقتصاد واستعادة زخم النمو. والأمر ببساطة أن لا أحد يستطيع دعم مستويات الاستهلاك والاستحقاقات الحالية دون مزاحمة استثمارات القطاع العام، ما لم نكن نعتقد أن قوة الاقتراض لدى الدولة غير محدودة، وأن تحول العبء بين الأجيال لا يشكل أهمية.
لابد إذن من الاختيار. والجمود أيضاً يشكل أحد الاختيارات ــ فهو يضمن أن تكون النتيجة نسخة ما من الوضع الراهن. ولكن كيف قد يبدو ذلك؟
هنا، يتطلب الأمر بعض التخمين. فمن المرجح أن يتم خفض برامج الاستحقاقات، ولكن ليس بالدرجة الكافية للتعويض عن تحويل قدر كير من العبء عبر الأجيال. وقد ترتفع الضرائب نوعاً ما في نطاقات الدخل المرتفع، مع ذهاب العائدات إلى استحقاقات الصناديق وإعادة التوزيع. ويكاد يكون من المؤكد أن الرغبة في تجنب الزيادات الضريبية الكبيرة (وتعزيز مستويات الاستهلاك) سوف تنعكس في النقص المستمر في استثمارات القطاع الخاص،وهو ما من شأنه أن يقوض النمو في الأمد البعيد.
والواقع أن ميزانية أوباما المقترحة تقر بأن كل الأهداف والتوقعات لا يمكن تحقيقها، وأن النمو قضية تتعلق بالتوزيع جزئياً الآن، ولكنها تنتقل من جيل إلى الذي يليه (بل ومن المحتمل أن ترتبط بالشمولية والاستقرار الاجتماعي) في الأمد الأبعد. وهي بمثابة الدعوة الموجهة إلى الكونجرس الأمريكي والرأي العام الأمريكي للاعتراف بالخيارات والمقايضات المطلوبة لتأسيس نمط مستدام من النمو الاقتصادي ــ وضمان التوزيع العادل للأعباء المصاحبة لهذه الغاية.
وتصبح الخيارات أكثر تطرفاً في الدول حيث اختلالات أشد وحيث تعاني الأسواق من قدر أعظم من المعوقات الناجمة عن السياسات لمرونة القطاع الخاص، وقدرته على الحركة، وديناميكيته التي لا تزال الولايات المتحدة تستفيد منها. ففي إيطاليا وأسبانيا أصبح النمو سلبيا، وبلغت معدلات البطالة بين الشباب هنا 35 % و55 % على التوالي. ومن المؤكد أنها قضية أخلاقية، ولكنها أيضاً تتعلق بالاستقرار السياسي والاجتماعي.
إن كل دولة لديها نسختها الخاصة من العقد الاجتماعي الذي يحدد حقوق المواطنين ومسؤولياتهم، ودور الدولة،وفكرة الشمولية. والواقع أن أكثر السياسات العامة والاختيارات المالية نجاحاً هي تلك التي لا تكتفي بالاسترشاد بالقيم الثابتة المتأصلة في العقد الاجتماعي، بل وتتكيف أيضاً مع الظروف الديموغرافية،والتكنولوجية، والعالمية المتغيرة.
وهذا يعني في بعض الأحيان اتخاذ خيارات صعبة من ذلك النوع الذي تواجهه الولايات المتحدة والعديد من الدول المتقدمة الأخرى الآن. وإذا انتهينا إلى اختيارات رديئة فإن النمو سوف يعاني وسوف تكون خيارات التوزيع في المستقبل أكثر إيلاما.
نقلا عن جريدة الشبيبة