تواجه الكويت تحديات مهمة سياسياً واقتصادياً، وهي مقبلة على تطورات إدارية بعد إجراء الانتخابات النيابية خلال شهرين. لكن ما هو مهم هو ذلك الإصلاح الاقتصادي المنشود والذي يتحدث عنه الجميع لكن من دون إنجاز ملموس. فهل يمكن النخبة السياسية وضع تصورات واقعية لإصلاح اقتصادي يؤدي إلى تشغيل فاعل للموارد البشرية والمالية؟ عند استعراض البرامج والرسائل التي أطلقها المرشحون في الانتخابات السابقة، لا يجد المرء تلمساً جاداً لمتطلبات الإصلاح الاقتصادي، وهناك استحياء من قبل الأفراد والقوى السياسية عند التطرق للمسألة الاقتصادية، فلا تطرح المشكلات في شكل صريح، ويحاول السياسيون أن يتحاشوا الإصلاحات التي تمس المنافع الريعية، بل إن الأمر أصبح أكثر تناغماً مع المتطلبات الشعبوية، من ذلك الدعوة إلى إسقاط القروض الاستهلاكية التي استدانها المواطنون من المصارف عبر شراء الدولة إياها أو تسديدها نيابة عن المواطنين، أو الدعوات إلى زيادة الرواتب والأجور الخاصة بالكويتيين العاملين في القطاع العام. ولذلك ليس مستغرباً رفع مخصصات الإنفاق العام بمعدلات سنوية قياسية تصل إلى 15-20 في المئة، ما جعل الموازنة العامة تقترب من 20 بليون دينار (71.5 بليون دولار) في السنة المالية الحالية.
وإذا كانت الحكومة خلال الأسابيع الأخيرة طرحت دراسات تؤكد أهمية إصلاح السياسات المالية وتحذّر من الاستمرار في النهج الريعي، فهل سنتمكن من إقناع الساسة في مجلس الأمة وخارجه بتبني فلسفة حذرة في الإنفاق؟ لا شك في أن أزمة الإصلاح تكمن في فلسفة دولة الرفاه والرعاية والتي تكرست على مدى نصف قرن فأصبح من حق المواطنين التمتع بالتشغيل في القطاع العام والحصول على منافع تقاعدية مجزية، وكذلك التمتع بالخدمات التعليمية والصحية والإسكانية وخدمات المرافق في مقابل رسوم متهاودة. ولذلك بلغت مخصصات الرواتب والأجور والتقاعد وملحقاتها في الموازنة العامة للدولة 10 بلايين دينار، كما وصلت مخصصات دعم السلع والخدمات والمرافق إلى 6.5 بليون دينار، أي 16.5 بليون دولار أو 82.5 في المئة من الموازنة السنوية. وبات على الدولة أن تؤمّن إيرادات مهمة لمواجهة هذه الالتزامات الجارية عن طريق مبيعات النفط، خصوصاً عندما تنخفض إيرادات النفط بفعل تراجع الأسعار. ولا بد للإدارة الاقتصادية من أن تبين للأطراف السياسية ضرورة مراجعة فلسفة النهج الريعي وأخطار الاستمرار في الاعتماد على التشغيل غير المبرر أو تقديم الدعم السلعي والخدمي من دون التأكد من الجدوى الاقتصادية.
بطبيعة الحال هناك الأبعاد الديموغرافية لهذه السياسات المالية، فالدولة تشغل معظم المتدفقين إلى سوق العمل، وتقدر أعدادهم بـ 25 ألف مواطن سنوياً، ولذلك اقترب عدد العاملين الكويتيين في الحكومة ومؤسسات القطاع العام من 400 ألف شخص. أما القطاع الخاص فلا يشغل أكثر من 65 ألف كويتي من أصل 1.2 مليون موظف فيه. ويؤكد هذا الواقع ارتفاع نسبة العاملين الكويتيين في الحكومة من إجمالي قوة العمل الوطنية، واستمرار اعتماد القطاع الخاص على العمال الوافدين. وتشير دراسات سوق العمل في البلاد إلى أن القطاع الخاص يعتمد على أيدٍ عاملة وافدة رخيصة، كما أن المزايا المعتمدة خلال السنوات الماضية في شأن العاملين في المؤسسات التابعة للدولة، أوجدت تفاوتاً كبيراً مع معدلات الأجور والمزايا التي يقدمها القطاع الخاص.
ومعلوم أن الدولة تريد تشجيع الكويتيين على العمل في القطاع الخاص وتفرض على مؤسساته السعي إلى تشغيلهم وتحديد نسب للعمال الكويتيين وفق القطاعات الاقتصادية، إلى جانب المخصصات التي تدفعها الدولة إلى العاملين الكويتيين في القطاع الخاص. لكن سياسات التشغيل في القطاع العام أو القطاع الخاص لا تزال بعيدة من المفاهيم الاقتصادية، بمعنى أن يكون التشغيل معتمداً على وجود شواغر فعلية يقابلها متقدمون إلى العمل يملكون المؤهلات المهنية الملائمة. ومطلوب خلال السنوات المقبلة إنجاز إصلاحات بنيوية في سوق العمل يرتقي بعملية التشغيل ويعزز الاستفادة من الطاقات البشرية الوطنية.
هل يمكن الواقع السياسي أن ينتج سياسات تشغيل تعمل على ترشيد السياسات المالية وتمكن من إصلاح الهيكل الاقتصادي؟ هذا هو التحدي الأساسي الذي تواجهه الكويت، لكنه ليس تحدياً جديداً. والمطلوب اليوم طرح الأمور على أسس واضحة لا لبس فيها، فلم يعد في الإمكان تجاوز الحقائق الاقتصادية الدامغة التي تؤكد خطل السياسات الراهنة، فالاعتماد على الإنفاق العام بموجب المعايير القائمة أصبح مؤشراً إلى أزمات مستقبلية غير معلومة عواقبها، كما أن الاستمرار في الاعتماد على اليد العاملة الوافدة من دون ترشيد هو بمثابة تشوه اقتصادي يعتمد تشغيل متواضع لقوة العمل الوطنية. ولن تنفع الفلسفة الشعبوية الهادفة إلى شراء الود السياسي، المواطنين والمجتمع الكويتي في السنوات المقبلة. أما النظام التعليمي المفترض أن يعزز من القدرات المهنية والمهارات بين المواطنين فأصبح في ظل منظومة القيم الاجتماعية غير مؤهل لتعزيز التنمية البشرية في البلاد.
كيف يمكن، إذاً، تجاوز هذه الأوضاع المعقدة سياسياً واجتماعياً وتحرير البلاد من فلسفة الريع؟ الصراحة مطلوبة من القيادة السياسية، وعلى القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني تبني برامج للإصلاح تؤكد أهمية توعية المواطنين بضرورة وضع رؤية إصلاحية تعزز قيم التنمية المستدامة وتوظيف الموارد على أسس عقلانية. ويؤمل طرح مفاهيم مناسبة كهذه خلال الحملة الانتخابية العتيدة وتبني الحكومة توجهات إصلاحية وإضرارها على تنفيذ ما يلزم لتعديل الواقع الاقتصادي.