بعد الكساد الاقتصادي العظيم عام 1929م، أقر الكونغرس الأمريكي عام 1933م قانوناً ينظم في نسخته الأولى القطاع المصرفي تحت مظلة البنك الفيدرالي وفي نسخته الثانية يفصل نشاط المصارف التجارية عن نشاط المصارف الاستثمارية بهدف تقليل المخاطرة على النظام المصرفي، حيث عرف هذا القانون باسم قانون «جلاس ستيجال» نسبة إلى عضوين من أعضاء الكونغرس لعبا دوراً مهماً في تنظيم القطاع المصرفي الأمريكي أثناء تلك الفترة الاقتصادية العصيبة والتي تضمنت إصدار مجموعة كبيرة من التشريعات التنظيمية لكل من القطاع المصرفي والسوق المالية.
ما يهمنا هنا هو فصل نشاط المصارف التجارية عن نشاط المصارف الاستثمارية بحكم وجود اختلاف كبير في الأهداف وطبيعة العمل والمخاطر التي تنطوي عليها نشاطات هذه المصارف فيما بينها، حيث تسعى المصارف الاستثمارية إلى استثمار أموالها وأموال عملائها لتحقيق أكثر عائد ممكن مما يعني تحمل مخاطر كبيرة بينما لا نجد ذلك في المصارف التجارية التي تسعى إلى استقطاب ودائع العملاء لتوظيفها خلال فترة زمنية قصيرة في قروض واستثمارات قليلة المخاطر مما يعني تحمل مخاطر محدودة لكونها مؤتمنة على ودائع العملاء الذين يحق لهم سحب أموالهم في أي وقت.
لا شك أن النسخة الثانية من قانون «جلاس ستيجال» تعتبر من أهم القوانين المنظمة للقطاع المصرفي ليس في الولايات المتحدة فحسب، بل في معظم دول العالم إلا أنه مع الأسف الشديد تم في عام 1999م إيقاف العمل بهذه النسخة في الولايات المتحدة ليس لعيب فيها بل لعيب في تطبيقاتها، حيث خالفت المصارف التجارية هذه النسخة ومارست ضغوطا كبيرة على الكونغرس في سبيل السماح لها بمنافسة المصارف الاستثمارية في مجال المشتقات المالية والتعهد بالتغطية والأوراق المالية رغبة منها في تحقيق أكبر مكاسب ممكنة وهو ما أسهم في تفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية التي نعيشها اليوم والتي من المتوقع أن تستمر آثارها لسنوات طويلة.
عند النظر إلى النظام المصرفي في المملكة، نجد أن مصارفنا التجارية في وضع قوي ومطمئن ولله الحمد إلا أننا مع الأسف لا نجد فصلاً واضحاً لنشاطات المصارف التجارية عن المصارف الاستثمارية، حيث يحق للمصارف التجارية اليوم الاستثمار في المشتقات المالية وفي الأوراق المالية وفي التعهد بالتغطية، حيث تتركز المشكلة في أن بعض هذه الاستثمارات قد يكون بهدف التحوط وهذا مقبول إلا أن البعض الآخر هو بهدف المضاربة (في مقايضات أسعار الفائدة والعملات الأجنبية على سبيل المثال) وهذا بالتأكيد غير مقبول!!!!
هذا يعني أننا في أمس الحاجة إلى ما يشابه قانون «جلاس ستيجال» حتى نضمن تقليل المخاطر على ودائع العملاء وإبعاد المصارف التجارية قدر الإمكان عن منافسة المصارف الاستثمارية، وهنا يجب أن لا ننسى ما حصل قبل نحو ثلاثة أعوام لأحد المصارف التجارية الذي تعهد بتغطية الاكتتاب العام لإحدى الشركات وكان قاب قوسين أو أدنى حينها من دفع أكثر من 600 مليون في يوم واحد لتغطية الاكتتاب لولا تدخل الجهات الرسمية بفتح الحد الأعلى ثم القيام بعد ذلك بإلزام وجود متعهد تغطية رئيسي ومتعهدو تغطية مساعدون. قد نكون نجحنا الآن في توزيع المخاطرة على عدد من المصارف التجارية، إلا أن المخاطرة لا تزال قائمة وهنا تبرز المشكلة.