الاتحاد الخليجي.. الجغرافيا أصبحت تاريخا

05/06/2012 1
د. فواز العلمي

الدول الخليجية تواجه اليوم تحديات رئيسية، أهمها قدرتها الذاتية على الدفاع عن مصالحها وصد مطامع جارتها العدوانية، وتوسيع وتعميق قاعدتها الإنتاجية، وتوطين وظائفها، وتحقيق الأمن المائي والغذائي لشعوبها

في كتابه "نحو شراكة استراتيجية رابحة"، أكد الدكتور "جيفري فرانكل" أستاذ الاقتصاد بجامعة كاليفورنيا أن العالم قبل نصف قرن بدأ في تكوين التحالفات الإقليمية لدحر نوايا أشرار البشر والقضاء على أهدافهم الدامية ومغامراتهم الحمقاء من إرهاب واقتتال وعدوان. كان الهدف يصب في توفير فرص التعايش بين الشعوب بسلام ووئام من خلال إنشاء الشراكات التجارية والتكتلات الاقتصادية.

حققت هذه الاتحادات العديد من المكاسب والفوائد لاقتصاديات الدول نتيجة لزيادة تحرير أسواقها من كافة العوائق الجمركية والكمية، وتسخير المناخ الاستثماري الأمثل لقطاع أعمالها وتوفير الاستثناءات المميزة لشركائها.

في هذا العام وصل عدد هذه التكتلات الإقليمية إلى 230 قوة اقتصادية وتجارية، تستأثر على كافة المزايا المتوفرة لديها وتسيطر على 89% من تجارة العالم، وتتحكم في 90% من حركة رؤوس الأموال، وتستحوذ على 92% من خدمات الاتصالات وتقنية المعلومات، وتمتلك 97% من براءات الاختراع. ورغماً عن افتقارها لخيرات الأرض وثروات الطاقة، انخفضت نسب البطالة بين شعوبها وانحسر الفقر المدقع بين مواطنيها وازدهرت التجارة البينية في أسواقها وتضاعفت مشاريعها الاستثمارية المشتركة وارتفعت قيمتها المحلية المضافة.

في هذه الاتحادات تتآلف الشعـوب لرفعة شأنها وتنمية مواردها وتسخير العلم والمعرفة في تطوير ذاتها وبناء قدراتها، لتشطب من قواميسها أوصاف التخلف والاتكالية وتستبدلها بمفردات التكامل والتحالف.

رغماً عن تباين أديانهم ولغاتهم وتفاوت عاداتهم وتقاليدهم، تآلفت قلوب شعوب 27 دولة أوروبية متناحرة وتلاشت أحقادهم وانصهرت همومهم تحت سقف نظام الاتحاد الأوروبي، الذي أصبح من أقوى الاتحادات في العالم.

من كان يتوقع أن تتحالف ألمانيا (العدوانية) مع فرنسا (الأرستقراطية) وبريطانيا (النظامية) مع إيطاليا (الفوضوية) وإسبانيا (العنيفة) مع هولندا (الأليفة) وبولندا (الشيوعية) مع بلجيكا ولوكسمبورج (الرأسمالية)؟

ومن كان يتوقع أن تتفق في نهاية العقد الماضي شعوب 10 دول آسيوية ضعيفة ومشتتة، يخدم معظم فئاتها في بيوتنا ومزارعنا ومصانعنا، لا يحكمها أصل موحد ولا لغة واحدة، لتنشىء تحالف مجموعة "آسيان"، ليصبح اليوم ثالث أكبر قوة اقتصادية عالمية، ويفوق نموه 250% نسبة نمو مثيله في الدول العربية، وليرتفع دخله ليعادل نظيره في دول الاتحاد الأوروبي؟

ومن كان يتوقع أن تصبح مجموعة "ميركوسور" لدول أميركا الجنوبية، المكونة من الأرجنتين والبرازيل وباراغواي وأوروجواي وشيلي وبوليفيا، من أفضل الاتحادات الاقتصادية التي أزالت جميع العوائق الجمركية والكمية عن كافة السلع المتبادلة بينها، وتفوقت على غيرها بسرعة التصدي لكل من يعتدي على حدودها الإقليمية ويعبث بمقدراتها المكتسبة.

شعوب الدول الخليجية لا يزيد عددهم اليوم عن 0,5% من عدد سكان العالم، ولكنهم يمتلكون 44% من مخزون الطاقة العالمي، بقيمة تفوق 800 ألف مليار دولار بالأسعار الجارية، لتعادل 15 ضعف قيمة الناتج الإجمالي العالمي السنوي، و60 ضعف قيمة التجارة العالمية في كافة القطاعات و47 مرة ضعف الميزانية السنوية لدول أميركا وأوروبا مجتمعة.

الدول الخليجية تواجه اليوم 4 تحديات رئيسية، أولها وأهمها ينحصر في قدرتها الذاتية على الدفاع عن مصالحها وصد مطامع جارتها العدوانية، ويرتكز الباقي على توسيع وتعميق قاعدتها الإنتاجية، وتوطين وظائفها، وتحقيق الأمن المائي والغذائي لشعوبها.

القمة الخليجية القادمة تحتاج إلى توحيد جهودها وإعادة هيكلة أولوياتها لمواجهة هذه التحديات بشكل جذري، وتوجيه طاقاتها البشرية ومواردها المالية لتوفير الحلول العملية الجذرية لهذه التحديات من خلال تكوين الاتحاد الخليجي وتنفيذ خططه الاستراتيجية.

التقديرات الإحصائية المتوقعة للنمو السكاني بدول الخليج العربية تشير إلى أن عدد السكان الإجمالي سوف يزيد بنسبة 57% خلال العقد القادم، ليرتفع عدد الخليجيين منهم بنسبة 89% خلال المدة نفسها ويصبح عددهم 57 مليوناً في عام 2020م. هذا الارتفاع سيؤدي إلى زيادة المعروض من العمالة الخليجية بنسبة تفوق 112% عما هي عليه اليوم لتصل في عام 2020 إلى 23 مليون خليجي قادر على العمل.

كما أن نسبة النمو الاقتصادي ما زالت ضعيفة بالمقارنة مع دخل الدول الخليجية، ويجب أن يفوق ضعف نسبة النمو السكاني. وهذا لن يتحقق إلا من خلال ترسيخ مبادئ الاقتصاد المعرفي وفتح قطاع الخدمات للاستثمار الإقليمي الخليجي.

كما تشير الإحصائيات الرسمية إلى أن نسبة مساهمة قطاع الخدمات في الناتج الخليجي الإجمالي لا تزيد في المتوسط عن 40%، وهي من أضعف النسب بين دول العالم، حيث تفوق هذه النسبة 60% في كل من الصين والهند، و70% في كوريا وتايوان وسنغافورة، و80% في أوروبا و85% في كل من أميركا واليابان.

قبل 5 سنوات، فاجأ الرئيس الإيراني مؤتمر قمة "الدوحة" الخليجية من خلال محاضرته التنظيرية لمبادىء (النجاح). تناسى "نجاد" الجزر الإماراتية الثلاث المغتصبة معتقداً أنها أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الخريطة الإيرانية ولا تستحق الإشارة إليها. تعدى "فخامته" على أهم حقوق الملكية الجغرافية مجاهراً بأن الخليج العربي هو في الأصل فارسي المنشأ والولادة. أطلق "الزعيم" الغائب عن العالم مبادراته الاثني عشرية مطالباً بإنشاء تكتل تجاري استثماري بين الدول الخليجية وإيران مع إلغاء الرسوم الجمركية وتبادل الخبرات التقنية، ليخالف بذلك شروط وأحكام مثل هذه الاتحادات.

صياغة التاريخ الحديث لم تأت محض صدفة، بل كانت حصيلة مدروسة وحتمية ملموسة لرؤى الدول الطموحة وحنكة القادة الممزوجة بتطلعاتهم والتخطيط السليم لمفكريهم والمبادرات الثاقبة لخبرائهم في السياسة والاقتصاد والمال والأعمال.

في عصر العولمة... الجغرافيا أصبحت تاريخاً.