السياسات النقدية السعودية والتحديات القادمة

07/05/2011 7
تركي فدعق

يمر الإقتصاد العالمي بفترة حرجة تتميز بتفاوت معدل النمو الإقتصادي ما بين الدول المتقدمة والدول الناشئة حيث تشير آخر توقعات صندوق النقد الدولي إلى تحقيق الاقتصاد العالمي معدل نمو 4.5 % تقريبآ في عامي 2011 و 2012 وإن كان النمو في الاقتصاديات المتقدمة لن يتجاوز 2.5 % بينما تسجل الاقتصادات الصاعدة والنامية نموآ أعلى بكثير يبلغ 6.5 % ، من المتوقع أن يحقق الاقتصاد السعودي معدل نمو 7.5 % خلال العام الحالي .

من المخاطر المحيطة بالإقتصاد العالمي عودة مستويات التضخم للنمو خصوصآ أسعار الغذاء والطاقة والتي تستأثر بحصة كبيرة من الاستهلاك.

تتعزز هذه المخاوف بناء على السياسات النقدية التوسعية التي يتبعها البنك الفيدرالي الأمريكي والتي أدت إلى تجاوز العجز في الميزانية الفيدرالية الأمريكية 14 تريليون دولار ،وقريبآ من السقف المحدد من قبل الكونجرس الأمريكي والبالغ 14.294 تريليون دولار وهو السقف الذي يعني مقدار ما يمكن للحكومة الأمريكية إقتراضه لتمويل نفقات الميزانية العامة،كما عزز من هذه المخاوف تخفيض وكالة موديز للتصنيف الائتماني للديون الحكومية الأمريكية من ( AAAمستقر) إلى (ِAAA سلبي ) حيث انخفض الدولار مباشرة بعد صدور هذا التقييم مقابل سلة من العملات الرئيسية وأدى ذلك إلى ارتفاع قياسي في أسعار المعادن الثمينة ووصول اونصة الذهب لمستوى 1575 دولار واونصة الفضة 50 دولار للمرة الأولى.

هذا الإنخفاض في قيمة الدولار في حال استمراره من المتوقع أن ينعكس على الاقتصاديات الأخرى التي ترتبط بالاقتصاد الأمريكي بشكل أو بآخر ،درجة التأثير ستعتمد على درجة ارتباط الاقتصاد من جانبين، الجانب الأول يخص أسعار الصرف وهذه ستنعكس على الارتفاع في أسعار الواردات إلى الاقتصاد المحلي وخصوصآ أسعار المواد الغذائية ، والجانب الثاني إنخفاض الاستثمارات الحكومية في الأوراق المالية الأمريكية بنفس نسبة إنخفاض الدولار مع إنخفاض عوائدها المتوقعة.

التأثير على أسعار الصرف:

فيما يخص الاقتصاد المحلي من المتوقع أن ينعكس أثر تثيبت سعر الصرف الحالي عند (3.75 ريال لكل دولار ) على زيادة الضغوط التضخمية الناتجة عن إنخفاض سعر صرف الدولار وذلك سيؤدي إلى إرتفاع تكلفة الواردات بنفس نسبة الانخفاض في سعر صرف الدولار.

بلغت قيمة إجمالي الواردات في شهر فبراير 2011 ( 27,769 مليون ريال) بارتفاع 9.5 % عن قيمة الواردات في فبراير من العام 2010 والتي بلغت (25,370 مليون ريال)

،مثلت المواد الغذائية 14 % من إجمالي الواردات حيث يستورد الاقتصاد السعودي معظم احتياجاته الغذائية من الخارج.

التأثير على الاستثمارات الحكومية في الأوراق المالية الأمريكية:

سيؤدي إنخفاض الدولار إلى إنخفاض الأصول المستثمرة في السندات الأمريكية بنفس نسبة الانخفاض مع انخفاض العوائد المتوقعة والناتجة عن سعر الفائدة على الدولار الأمريكي المنخفضة حاليآ، ذلك سيضر بالاستثمارات الأجنبية في السندات الأمريكية وعلى رأسها الاستثمارات الحكومية الصينية والتي تعتبر أكبر مستثمر عالمي في السندات الأمريكية ويليها الاستثمارات الحكومية السعودية والبالغة 1,246 مليار ريال أو (332,3 مليار دولار) والتي تشكل 70 % من إجمالي الموجودات الحكومية حسب بيانات ساما في مارس 2011.

التحديات الرئيسة أمام مؤسسة النقد العربي السعودي (ساما):

تواجه ساما تحديات رئيسية تتمثل في انتهاج سياسات نقدية ملائمة ومناسبة لهذه المرحلة بحيث تؤدي هذه السياسات إلى تحقيق أعلى فائدة للإقتصاد المحلي وتجنبه التضخم المستورد في نفس الوقت بأقل قدر من الخسائر الممكنة.

منذ عام 1986 (عندما تم تثبيت سعر صرف الريال السعودي مقابل الدولار الأمريكي عند 3.75 ريال لكل دولار) وحتى اليوم إنخفض الدولار مقابل سلة من العملات الرئيسية العالمية بما يزيد عن 46 % من قيمته وهذا الانخفاض إنعكس على القيمة الحقيقية للريال اليوم.

من أبرز الأسباب التي دعت الحكومة إلى ربط الريال السعودي بالدولار الأمريكي أن معظم التدفقات النقدية الداخلة للحكومـة مصدرها الرئيسي هو إيرادات بيع النفط المسعر بالدولار الأمريكي، كما أن معظم التدفقات النقدية الخارجة والخاصة بالنفقات العامة للدولة يتم تقييمها وتقديرها بالدولار الأمريكي أيضا، الأمر الذي يساعد الحكومة السعودية ويسهل عليها إدارة تدفقاتها النقدية الداخلة والخارجة، ولاسيما في ظل ظروف أسعار نفط عالمية متذبذبة يصعب التنبؤ باستقرارها وثباتها عند مستوى سعري معين، وبالتالي فإن ربط الحكومة لعملتها بالدولار(بغض النظر عن سعر الربط) يمنحها مساحة كبيرة من الحرية المرتبطة بالمحافظة على تحقيق مستوى معين من الإيرادات بما يخدم مصلحة الاقتصاد السعودي.

من الأسباب الأخرى التي تدعم سياسة ربط الريال بالدولار من حيث المبدأ التالي:

• كافة صادرات المملكة ووارداتها مقومة بالدولار الأمريكي كما أن احتياطيات المملكة من النقد الأجنبي معظمها مكون من الدولار الامريكي الناتج عن بيع النفط السعودي بالدولار.

• انخفاض درجة تنوع وعمق الاقتصاد المحلي وإعتماده على الصادرات النفطية بشكل رئيسي ،مما يجعل الاقتصاد المحلي أكثر عرضة للتأثر بأي صدمات خارجية ناتجة عن تراجع أسعار النفط أو ارتفاع الأسعار العالمية للواردات ، وهذا وضع يتطلب استقرار سعر الصرف حتى يسهل التعامل مع مثل هذه التغيرات.

• عملية ربط الريال بالدولار تؤدي إلى التخلص من تأثيرات تغير أسعار العملة ومضاعفاتها على الميزانية الحكومية، حيث من شأن تعويم الريال أن يؤدي إلى تذبذبات في الإيرادات النفطية(المقومة بالريال)والتي تمثل معظم الايرادات الحكومية .

• معظم دول العالم تعتبر الدولار الامريكي هو العملة العالمية الرئيسية ، فهو الأوسع انتشارآ والأكثر استخدامآ والأعظم قبولآ، كما أن الدولار الأمريكي يمثل الجزء الأكبر من الأصول الأجنبية للبنوك المركزية والتجارية في العالم .

• ربط الريال بالدولار يساعد على خفض مستويات المضاربة بالريال السعودي ، إذ تقود المضاربة بالعملة في حالة ارتفاع سعر صرفها بشكل كبير الى ارتفاع مستويات تذبذب العملة مما يقلل من استقرارها ويرفع من تكاليف الدفاع عنها ويقلل الثقة بها.

• الميزان التجاري للمملكة مع الدول التي تستخدم الدولار الامريكي أو التي ترتبط عملاتها بالدولار تشكل الجزء الأكبر من الميزان التجاري العام مع دول العالم.

• الدولار يعتبر المثبت المشترك للدول الخليجية حتى الوصول إلى عملة خليجية موحدة.

ولكن على الرغم من هذه المبررات إلا أن الواقع وتجارب العديد من الدول تشير إلى أن ربط الريال بالدولار (عند السعر الحالي) ليس خيارآ مثاليآ في كل الأحوال ،وأن هذا الخيار من المفترض أن يخضع لمراجعة دورية في ظل تغير أسباب الربط – منذ 1986- بين الريال والدولار وفقدان الدولار أكثر من 46 % من قيمته منذ ذلك الوقت بالإضافة إلى التباين الكبير حاليآ مابين أوضاع الاقتصاد الامريكي والاقتصاد السعودي.

اليوم هنالك ثلاثة خيارات أمام ساما (على الأقل من الناحية النظرية)، وكل خيار من هذه الخيارات له ما يبرره من الأسباب :

الخيار الأول:

إبقاء الوضع كما هو عليه وبالتالي تزداد مخاطر الوضع القائم من موجه تضخمية قادمة قد تعصف بالدولار الأمريكي إلى مستويات متدنية،فإنخفاض الدولار لايتعارض مع السياسة الأمريكية بل يحقق أهدافها ويزيد من تنافسية الصادرات الأمريكية حول العالم .

سينعكس ذلك على الاقتصاد السعودي بإرتفاع في قيمة الواردات بنفس نسبة انخفاض الدولار في الأسواق المالية، هذا بالإضافة إلى انخفاض الاستثمارات الحكومية السعودية في الأوراق المالية الأمريكية .

الخيار الثاني:

فك الارتباط بالدولار الأمريكي وربط الريال بسلة من العملات الرئيسية العالمية ، هذا الخيار يعني تثبيت انخفاض الريال 46 % من قيمته منذ 1986 مقابل سلة من العملات الرئيسية إلا إذا تم إعادة تسعير الريال قبل فك الارتباط ، كما تكمن مخاطر هذا الخيار بأن معظم التدفقات المالية الحكومية تأتي بالدولار كنتيجة لمبيعات النفط المسعر بالدولار الأمريكي والذي يعتبر المورد الرئيسي للدولة، لذلك فهذا الخيار مستبعد في الفترة الحالية، وقد أشار معالي محافظ مؤسسة النقد دمحمد الجاسر قبل عدة أيام إلى أن الربط بالدولار سيستمر طالما االدولة تعتمد على النفط.

الخيار الثالث:

رفع الريال مقابل الدولار إلى (3.5 ريال لكل دولار) أو (3.25 لكل دولار) الرقم الذي يحقق أعلى منفعة للإقتصاد، نظرآ لأن سعر الريال مرتبط باقتصاد مختلف عن الاقتصاد الوطني، وبالتالي فان ما يجري في أمريكا يعتبر العامل المؤثر في القيمة الشرائية للريال .

ولهذا الخيار ايجابيات وسلبيات عديدة ،أهمها التالي :

اولآ: ايجابيات رفع سعر صرف الريال:

1. يمتص الضغوط التضخمية المستوردة نتيجة لرفع القيمة الحقيقية للريال ويقلل من تكلفة الواردات بنفس نسبة رفع الريال مما سينعكس على أوضاع المستهلكين في الاقتصاد المحلي بشكل مباشر ويخفف من أعباء الدولة في دعم السلع الناتج عن ارتفاع أسعارها العالمية بسبب انخفاض الدولار .

2. الاستثمارات الحكومية الخارجية ستنخفض إذا تم تقييمها بالريال ولكن لن يؤثر على قيمتها الحقيقية عند تقييمها بالعملات الأخرى كما أنه في ظل السعة الاستيعابية المحدودة للإقتصاد السعودي فمن غير المتوقع إدخال هذه الأموال بشكل كامل إلى الاقتصاد المحلي.

3. ارتفاع نسبة الاستهلاك في الناتج المحلي على حساب قطاع الصادرات.

4. انخفاض أغلب أسعار السلع المستوردة من أوروبا وآسيا والولايات المتحدة، الأمر الذي يسهم في تخفيض مستويات التضخم في المملكة. يعتمد مدى انخفاض أسعار الواردات في هذه الحالة على مقدار رفع سعر الصرف.

5. سيؤدي رفع سعر صرف الريال بنسبة كبيرة إلى تحول كبير في الاقتصاد لأن هذا الرفع سيؤدي إلى زيادة نسبة الاستهلاك في الناتج المحلي على حساب قطاع الصادرات. بعبارة أخرى، رفع سعر صرف الريال سيحول جزءاً من عبء النمو الاقتصادي من الخارج إلى الداخل، وهو أمر مرغوب للتخفيف من أثر تقلبات أسعار النفط والصادرات الأخرى في الاقتصاد السعودي.

6. انخفاض تكاليف المشاريع الضخمة والمدن الاقتصادية التي تعتمد في بنائها وتشغيلها على الواردات عما كان مخططاً، الأمر الذي قد يسهم في إنعاش أسهم بعض الشركات المرتبطة بهذه المشاريع.

7. انخفاض تكاليف سفر السعوديين للخارج، سواء الطلاب الذين تبتعثهم وزارة التعليم العالي أو الأسر السعودية التي تسافر للخارج.

8. ارتفاع القيمة الشرائية لتحويلات العمال الوافدين في بلادهم، بخاصة إذا كانت هذه البلاد تربط عملتها بالدولار، رفع قيمة الريال يعني لبعض الوافدين رفع الأجور تلقائيا، دون أن تزيد تكاليف الشركات والمنشآت السعودية.

9. ارتفاع قيمة أصول وعوائد الشركات الأجنبية العاملة في المملكة التي أدخلت استثماراتها للسعودية بالدولار، الأمر نفسه ينطبق على المستثمرين السعوديين الذين حولوا استثماراتهم إلى داخل المملكة في الأعوام الماضية.

10. تحقيق عوائد للمؤسسات والأفراد التي اقترضت بالدولار، سواء من البنوك المحلية أو الأجنبية، فرفع الريال سيخفض من حجم ديون الشركات التي استدانت من الداخل بالدولار، أو استدانت من البنوك الأمريكية أو غيرها، إضافة إلى تحفيز الشركات السعودية التي تعتمد على التصدير على زيادة قدرتها التنافسية وزيادة الإنتاجية.

11. زيادة الاستثمارات السعودية في الخارج لأن تكاليف هذه الاستثمارات ستكون أرخص من قبل.

ثانيآ: سلبيات رفع سعر صرف الريال:

1. من أبرز تكاليف رفع أسعار صرف الريال هو انخفاض قيمة صادرات المملكة وخصوصا النفط والبتروكيماويات بمعدل رفع سعر صرف الريال نفسه نظرا لأنها مسعرة بالدولار، وسيؤدي انخفاض قيمة الصادرات النفطية إلى انخفاض الإيراد الحكومي بالريال وتقلص قيمة الاحتياطيات النقدية والاستثمارات، كما أن من شأن رفع قيمة الريال أن يخفض قيمة صادرات القطاع الخاص بالريال السعودي، مما قد يولد ضغوطا على إيرادات الشركات وبقية المنتجين من الصادرات.

2. انخفاض قيمة الأصول التي يملكها السعوديون المقيمون في الخارج، مقدرة بالريال السعودي، الأمر الذي سيحد من عودة هذه الاستثمارات إلى الاستثمار في السعودية.

3. زيادة الاستهلاك على السلع المستوردة، وهو ما قد يؤدي إلى رفع أسعار الواردات من البلد المصدر .

4. إنخفاض تنافسية المنتجات السعودية غير النفطية خارج السعودية بسبب ارتفاع أسعارها.

5. ارتفاع تكاليف سياحة الأجانب في السعودية وعلى رأسها ارتفاع تكاليف الحج والعمرة على القادمين من خارج السعودية.

6. انخفاض نسبي في الاستثمارات الأجنبية الجديدة، حيث إن رفع سعر صرف الريال سيرفع مباشرة تكاليف الاستثمار في المملكة. سيكون التأثير أكبر في الشركات الأجنبية التي تدخل سوق المملكة لأول مرة.

7. رفع سعر الريال سيسهم في عدم تشجيع بعض المستثمرين السعوديين على تحويل استثماراتهم إلى السعودية نتيجة ربط الريال بالدولار.

8. إن رفع قيمة الريال سيخفض من تكاليف الخدمات المستوردة ويعرض قطاع الخدمات المحلي إلى منافسة أشد.

9. في حال رفع أسعار صرف الريال ستنخفض قيمة موجودات مؤسسة النقد من الأوراق المالية والعملات الأجنبية إذا قيمت بالريال ولكنها لن تتأثر إذا قيمت بالدولار .

10. ستتأثر بعض البيانات الاقتصادية في حال رفع قيمة الريال، فسوف يؤدي رفع أسعار صرف الريال إلى رفع قيمة الناتج المحلي بالدولار، وبالمقابل سيرتفع حجم الدين المحلي بالدولار.

بعد استعراض أهم ايجابيات وسلبيات رفع سعر صرف الريال كأحد الخيارات المتاحة أمام مؤسسة النقد (ساما) فإن الخيار الأفضل يحتاج إلى معرفة التأثيرات التفصيلية لكل خيار وانعكاسه على الاقتصاد بشكل كامل في ظل إتفاقيات إقليمية ما بين دول الخليج للوصول إلى عملة خليجية موحدة بعد أن تم إنشاء البنك المركزي الخليجي المسئول عن صنع السياسات النقدية الخليجية المستقلة.