تبين في المقال الماضي أنه رغم الدور الذي لعبته العوامل الاقتصادية والسياسية في الأحداث الأخيرة، إلا أن الصراع في النهاية، خاصة في مصر، صراع بين جيلين، جيل حر وجيل تقبل الاستبداد. بناء على ذلك فإن الأوضاع لن تستقر مجرد رحيل الرئيس وأتباعه، وستستمر المظاهرات. هذا يعني أن المخاطر الناتجة عن الأوضاع في مصر ستبقى كما هي رغم رحيل الرئيس.
وقبل شرح هذه المخاطر لا بد من التعرض لأسعار النفط التي ارتفعت بشكل كبير خلال الأسبوعين الأخيرين. فقد ارتفعت الأسعار نتيجة انخفاض كبير في صادرات النفط الليبي تقدر بنحو مليون برميل يومياً، واحتمال انقطاع هذه الصادرات بالكامل (300 ألف برميل إضافية)، واحتمال انخفاض صادرات النفط في بعض الدول العربية، خاصة الجزائر واليمن (نحو مليوني برميل يوميا)، وتوقف إنتاج النفط في ساحل العاج، وانخفاض الطاقة الإنتاجية الفائضة نتيجة قيام بعض دول ''أوبك'' بزيادة إنتاجها في الفترات الأخيرة. هذه المخاوف زادت من عمليات التخزين، وزادت من عمليات المضاربة، التي سببها اقتناع التجار بأن أي زيادة في الإنتاج من دول الخليج لن تستطيع التعويض عن النفط الليبي في المدى القصير بسبب اختلاف المسافة واختلاف نوعية النفوط. كما أن هناك اقتناعا لدى التجار بأن عودة الاستقرار إلى ليبيا لن تعيد إنتاج النفط في ليبيا إلى ما كان عليه, وذلك بسبب وقف عمليات التنقيب من جهة، ورحيل الخبراء الأجانب من جهة أخرى. أما بالنسبة للمخزون النفطي التجاري في الولايات المتحدة, الذي ارتفع بشكل كبير في الفترات الأخيرة ليصل إلى مستويات تاريخية، فإن التجار والمضاربين مقتنعون بأن أثره محدود جدا, وذلك لأن الخزانات في مدينة كوشينج في ولاية أوكلاهوما معزولة وليست هناك أنابيب تصل بين هذه الخزانات والبحر.
لكن هناك عدة عوامل ستمنع أسعار النفط من الاستمرار في الارتفاع بشكل كبير منها أننا نشهد حاليا ردة فعل من المستهلكين، خاصة الأمريكيين منهم حيث بدأوا بتخفيض استهلاكهم من المشتقات النفطية، خاصة البنزين، وقد تقوم إدارة الرئيس أوباما باستخدام الاحتياطي الاستراتيجي النفطي، كما أن مخزون النفط الأمريكي ما زال مرتفعا بشكل كبير. وعلينا أن نتذكر أن الأحداث في المنطقة خفضت إنتاج النفط، لكنها قامت أيضا بتخفيض استهلاك النفط في المنطقة، وتخفيض معدلات نمو استهلاك النفط التي تكاد تكون الأعلى في العالم.
أما في مصر، فإن ''صراع الأجيال'' سيستمر، وسيلقي بظلاله على أسواق النفط العالمية خلال الشهور، وربما السنوات القليلة المقبلة. ويمكن حصر أثر استمرار عدم الاستقرار في مصر في أسواق النفط والغاز العالمية في خمسة احتمالات هي:
1- احتمال إغلاق قناة السويس أو انخفاض عدد السفن المار بها: تاريخ القناة يدل على أن الأحداث الداخلية لم تؤثر فيها, لكن تم إغلاق القناة في حالة حروب مع دول أخرى. لهذا لا يتوقع أن تؤدي الأحداث في مصر إلى إغلاق القناة، لكن قد يؤدي إضراب العمال والموظفين إلى تباطؤ حركة السفن، وربما وقف الحركة لفترة محدودة. حتى لو قام إرهابيون دوليون بتفجير سفينة وإغراقها في القناة فإن لدى هيئة القناة الإمكانية لفتح القناة خلال يوم أو يومين. في حالة الإغلاق التام فإن العالم سيخسر نحو مليوني برميل يوميا تمر في القناة بكلا الاتجاهين. ورغم أن مصر ستكون الخاسر الأكبر من إغلاق القناة، إلا أن الخاسر الثاني هو دول الخليج، ليس بسبب انخفاض صادراتها من النفط والغاز فقط، إنما أيضا بسبب العجز في المشتقات النفطية داخل دول الخليج الناتج عن تأخر هذه الشحنات القادمة من أوروبا. باختصار، في أسوأ الحالات، يمكن أن تغلق القناة لمدة يومين فقط، وهذا لن يؤثر كثيرا في إمدادات أسواق النفط العالمية, التي تقدر بـ 86 مليون برميل يوميا.
2- احتمال إغلاق خط أنابيب سوميد الواصل بين البحر الأحمر والبحر المتوسط: من الصعب جدا إغلاق هذا الخط حتى في حالة نشوب أعمال عنف, وذلك لأنه مطمور تحت الأرض من جهة، ولأنه محمي من الجيش المصري من جهة أخرى. لكن في حالة توقفه فإن العالم سيخسر نحو مليون برميل يوميا.
3- احتمال انخفاض صادرات الغاز: انخفضت صادرات الغاز المصرية بالفعل أثناء المظاهرات وقبل تنحي الرئيس حسني مبارك، وذلك بسبب إيقاف ضخ الغاز في الأنبوب الذي يوصل الغاز إلى إسرائيل والأردن وسورية ولبنان. والرواية الرسمية المصرية تقول إن الانفجار نتج عن تسرب الغاز، بينما هناك نظريات أخرى حول الانفجار تتعلق بإسرائيل. ورغم عودة الغاز إلى الأنبوب بكميات قليلة، إلا أنه من الصعب في الوقت الحالي عودة صادرات الغاز إلى ما كانت عليه. إن أي تطورات سلبية قد توقف الضخ في الأنبوب، خاصة إضرابات العمال، لكن التطورات الإيجابية قد تؤدي إلى انخفاض الصادرات, وذلك بسبب تحويل الغاز للاستهلاك المحلي.
4- احتمال انخفاض إنتاج النفط والغاز: نظرا لترحيل شركات النفط الأجنبية عمالها الأجانب، ووقف عمليات الحفر بالكامل فإنه من المنطقي أن ينخفض إنتاج النفط والغاز في مصر. وهذا يعني في النهاية أن الطلب العالمي على النفط سيرتفع لأن مصر ستستورد كميات إضافية للتعويض عن انخفاض إنتاج النفط فيها، كما يعني أيضا انخفاض المعروض العالمي من الغاز بسبب انخفاض صادرات الغاز المصرية سواء من الغاز الطبيعي أو الغاز المسال.
5- احتمال تأخير مشاريع الطاقة المتجددة والطاقة النووية: ما حصل في مصر انعكس سلبيا على مشاريع الطاقة المتجددة والنووية، الأمر الذي سيؤدي إلى تأخير هذه المشاريع. وإذا تم انتخاب حكومة لا ترغب فيها أوروبا فإن هذا يعني نهاية الطريق النووي لمصر. هذا يعني في النهاية زيادة واردات مصر من النفط، وانخفاض صادراتها من الغاز، وكلتا الحالتين ستسهمان في رفع أسعار النفط والغاز في المستقبل.
باختصار، أثر الأحداث في مصر في أسواق النفط والغاز العالمية محدود، لكن الأحداث لن تنتهي بتغير الحكم، وستقتصر أغلبية الآثار على نتائج إضراب العمال، سواء في القناة، أو في حقول النفط والغاز، أو في معامل الغاز المسال. وبإمكان دول ''أوبك'' بسهولة التعويض عن النفط الليبي على المديين المتوسط والبعيد، وسيختفي الأثر السياسي لأحداث ليبيا من أسعار النفط. إلا أنه لا يمكن التعويض عن النفط الليبي على المدى القصير لأسباب تتعلق بالمسافة والنوعية، وارتفاع أسعار النفط كان نتيجة منطقية لذلك.