ماذا سيحدث للعالم نتيجة خطة التيسير الكمي؟ (2)

12/11/2010 8
د.محمد إبراهيم السقا

سبق أن تناولت موضوع التيسير الكمي Quantitative Easing في مقال سابق، وذكرت أن التيسير الكمي هو عملية خلق النقود من فراغ، حيث سيقوم الاحتياطي الفيدرالي بزيادة الأساس النقدي Monetary Base في الولايات المتحدة، واستخدامه لشراء السندات الحكومية من المؤسسات المالية، التي يفترض أن تستخدم هذه الزيادة في الأساس النقدي في عمليات الإقراض وزيادة حجم الائتمان، وهو ما يؤدي إلى زيادة عملية خلق النقود بصورة مضاعفة، يعتمد ذلك على قيمة المضاعف النقدي Money Multiplier.

يوم الأربعاء الماضي الثالث من تشرين الثاني (نوفمبر) كشفت اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوح FOMC بالاحتياطي الفيدرالي عن خطتها للتيسير الكمي 2 التي ستنفذها حتى نهاية منتصف العام المقبل، وذلك بتوسيع نطاق الاحتفاظ بالأوراق المالية في حساب النظام الفيدرالي للسوق المفتوح SOMA، لتشجيع عملية استعادة النشاط الاقتصادي، من خلال شراء ما قيمته 600 مليار دولار من السندات، أو بالأحرى إصدار 600 مليار دولار، لتضاف إلى الرصيد الحالي من الأساس النقدي الأمريكي، وهو ما يعني ضخ نحو 75 مليار دولار شهريا في المتوسط من النقود الجديدة. إضافة إلى ذلك سيستمر الاحتياطي الفيدرالي في عمليات إعادة استثمار حصيلة إيرادات السندات التي حل تاريخ استحقاقها، حيث يقدر أن تقوم لجنة السوق المفتوح بشراء ما قيمته 35 مليار دولار من السندات في صورة إعادة استثمار، وهو ما يعني شراء 110 مليارات دولار في المتوسط شهريا. بهذا الشكل يتوقع أن تبلغ مشتريات الاحتياطي الفيدرالي من السندات في إطار الخطة ما بين 850 إلى 900 مليار دولار.

من ناحية أخرى، فقد قررت لجنة السوق المفتوح أن يتم تخصيص نحو 85 في المائة من هذا المبلغ لشراء سندات تراوح تواريخ استحقاقها بين 2.5 و10 سنوات، وذلك بهدف التأثير في معدلات الفائدة طويلة الأجل وخفضها إلى مستويات دنيا (وهو ما يعني خلق فقاعة في أسعار السندات طويلة الأجل)، وذلك للتأثير في معدلات العائد على السندات طويلة الأجل، ومن ثم دفع المؤسسات المالية إلى تحويل استثماراتها نحو إقراض القطاع الخاص.

خلال هذه المدة سيقوم الاحتياطي الفيدرالي بالمراجعة الدورية لهذه السياسات لضمان اتساق النتائج مع تحقيق مستهدفاته العامة. الأهداف المعلنة للاحتياطي الفيدرالي هي تعظيم مستويات التوظف مع ضمان الحفاظ على استقرار الأسعار، أي توجيه أدوات السياسة النقدية لضمان تعظيم عملية خلق الوظائف والتأكد من استمرار استقرار الأسعار. بصفة خاصة ستراقب لجنة السوق المفتوح مدى انحراف المعدلات المحققة من التضخم مع معدلات التضخم المستهدف، لضمان استقرار التوقعات التضخمية في الاقتصاد الأمريكي.

الوضع الحالي للاقتصاد الأمريكي هو أنه ما زال يعاني انخفاض سرعة استعادة النمو في الناتج، وبطء عملية خلق الوظائف التي تؤدي إلى استمرار معدلات البطالة عند مستويات مرتفعة من الناحية التاريخية، وهو ما يقيد الطلب الاستهلاكي، فعلى الرغم من تزايد الإنفاق الاستهلاكي الخاص إلا أنه ما زال ينمو بمعدلات متواضعة نتيجة ارتفاع معدل البطالة وضعف معدلات نمو الدخل، كذلك فإن انخفاض قيمة المساكن، يؤثر سلبا في ثروة المستهلكين، وهو ما يقيد حجم الائتمان الاستهلاكي الذي يمكن أن يقدم لهم. من ناحية أخرى فإنه وعلى الرغم من تزايد الإنفاق الاستثماري الخاص، إلا أنه ما زال ينمو بمعدلات أقل مما كان عليه الحال في بداية العام، كذلك فإن الإنفاق الاستثماري في القطاع غير السكني ما زال متواضعا، كما أن عمليات بناء المساكن الجديدة تسير بوتيرة ضعيفة جدا، أكثر من ذلك فإن معظم قياسات التضخم الحالية تدور حول معدلات تقل عن 2 في المائة (المستوى المستهدف من التضخم للاحتياطي الفيدرالي)، هذه المستويات المتراجعة، من التضخم تعني أن الاقتصاد يعاني طاقة إنتاجية فائضة، ومع ميل معدلات التضخم نحو الانخفاض ترتفع احتمالات أن يواجه الاقتصاد الأمريكي مخاطر الانكماش السعري، وتعد هذه الأوضاع غير مريحة على الإطلاق لصانع السياسة الاقتصادية، بصفة خاصة صانع السياسة النقدية. على سبيل المثال يشير بن برنانكي إلى أن التضخم المنخفض يمكن أن يوقع الاقتصاد الأمريكي في الخطر، خصوصا في ظل ضعف معدلات النمو، وعلى أسوأ الحالات يمكن أن يتحول التضخم المنخفض إلى انكماش سعري، الأمر الذي يحول الأزمة الحالية إلى ركود طويل الأجل.

كما سبق أن ذكرنا أنه عندما اشتعلت الأزمة قام الاحتياطي الفيدرالي باستخدام التيسير الكمي بصورة مكثفة لدفع معدلات الفائدة إلى مستويات صفرية لتحفيز الاقتصاد، ونقل تأثير السياسة النقدية إلى القطاع الحقيقي من الاقتصاد من خلال القنوات التقليدية بصفة خاصة قناة معدل الفائدة، وقد تسببت عمليات شراء السندات من قبل الاحتياطي الفيدرالي في زيادة ميزانيته بصورة حادة من 800 مليار إلى 2.3 مليار. غير أن خطة التيسير الكمي1، لم تسفر عن تحقيق الزيادة المرغوبة في عمليات الإقراض من قبل المؤسسات المالية، بصفة خاصة استمرت البنوك إما في شراء السندات، أو الاحتفاظ باحتياطيات زائدة ضخمة، أو إيداع أموالها لدى الاحتياطي الفيدرالي، ومن ثم لم يترتب على عمليات التيسير الكمي1 زيادة محسوسة في عرض الائتمان، إما لارتفاع درجة المخاطر المصاحبة لإقراض القطاع الخاص، أو لأن المقترضين الذين ترتفع درجة ملاءتهم المالية لا يقبلون على الاقتراض، في الوقت الذي ظلت فيه مؤسسات قطاع الأعمال صغيرة ومتوسطة الحجم، غير القادرة على الوصول إلى سوق السندات، محرومة من تقديم الائتمان بالشروط المناسبة لاحتياجاتها. على الرغم من هذه النتائج، فإن الاحتياطي الفيدرالي يعود ويطبق السياسات نفسها مرة أخرى، على أمل أن تحقق النتائج المرجوة منها هذه المرة، وربما يثور تساؤل مستمر الآن وهو ماذا ينتظر العالم نتيجة تطبيق مثل هذه الخطة؟ هناك كثير من الآثار المحتملة لتطبيق مثل هذه الخطة، سنحاول اختصارها في هذا المقال.

الأثر الأول المحتمل هو أنه ربما لا يترتب على تنفيذ هذه الخطة ارتفاع في معدلات النمو، أو ربما في حال تحقق ارتفاع معدلات النمو، أن هذا النمو ربما يكون مؤقتا. النتائج الأولية للإعلان عن خطة التيسير الكمي تبدو، على الأقل من الناحية النظرية، مشجعة للنمو، خصوصا مع ميل معدلات الفائدة طويلة الأجل نحو التراجع، وارتفاع أسعار الأصول، مثل هذه الأوضاع السهلة في سوق المال تساعد على تهيئة المناخ لارتفاع معدلات النمو الاقتصادي، على سبيل المثال، فإن انخفاض معدلات الفائدة طويلة الأجل يقلل من معدلات الفائدة على الإقراض العقاري، حيث تصبح المساكن سهلة المنال، وهو ما يشجع كثيرا من أصحاب المساكن على إعادة التمويل. من ناحية أخرى، فإن انخفاض أسعار الفائدة على السندات سيشجع الاستثمار، كما أن ارتفاع أسعار الأسهم سيعكس ارتفاعا في مستويات الثروة، وهو ما يؤدي إلى زيادة الإنفاق، ومن ثم رفع مستويات الدخول والأرباح، وهو ما سيؤدي إلى دعم التوسع الاقتصادي.

غير أن هذا التحليل يبقى تحليلا نظريا، وليس شرطا أن يتحقق على أرض الواقع، ولذلك يميل بعض المحللين من المتشائمين إلى التأكيد على أن الولايات المتحدة ما زالت تعاني ظاهرة مصيدة السيولة Liquidity Trap، ومن ثم ليس من الواضح ما إذا كانت أموال خطة التيسير الكمي ستؤدي إلى إحداث أي آثار إيجابية في مستويات الائتمان، أم ستدخل المصيدة دون أن تتحول إلى قروض ائتمانية للقطاع الخاص، ومن وجهة نظر هؤلاء فإنه حتى لو أدت الخطة إلى التأثير في هيكل أسعار الفائدة طويلة الأجل بالانخفاض، فليس هناك ما يدعو إلى التوصل إلى الخلاصة القائلة إن البنوك ستقوم بالإقراض، أو أن الشركات ستقبل على الاقتراض، طالما أن التوقعات تشاؤمية وأن درجة الثقة بمستقبل الأوضاع الاقتصادية على المستوى الكلي ما زالت متدنية.

الأثر الثاني المحتمل هو أن يترتب على الخطة ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة، وفي وجهة نظري ربما يكون هناك قدر من المبالغة في التوقعات التضخمية التي يمكن أن تنشأ عن الخطة، خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار ظروف الأزمة التي يعيشها الاقتصاد الأمريكي. لقد تم تنفيذ خطة التيسير الكمي1 بحجم يمثل ضعفين ونصف ضعف الخطة الحالية، ومع ذلك لم يرتفع معدل التضخم، بل على العكس، إن التخوف الحالي ليس من تضخم الأسعار، وإنما بصورة أكبر من انكماش الأسعار، وعلى أسوأ الفروض لو حدث التضخم، فإن التعامل مع التضخم ليس بتلك المهمة المستحيلة، كل ما سيحتاج إليه الاحتياطي الفيدرالي هو اتباع سياسات نقدية تقييدية، مع تحمل بعض الآثار المعاكسة في النمو. المهم الآن هو الخروج من الأزمة والعودة بمعدلات النمو إلى مستوياتها الطبيعية، والناتج إلى مستوياته في الأجل الطويل. إذا كان الوضع كذلك فلماذا هذه الحساسية المفرطة للخطة الحالية وردة فعل الأسواق الشديدة لها مقارنة بالخطة السابقة؟

الواقع أن الخطر الحقيقي لخطة التيسير الكمي الحالية ليس على معدلات التضخم في الولايات المتحدة، بقدر ما هو على معدلات التضخم العالمي. حيث من المتوقع أن تأخذ أسعار السلع التجارية الدولية في الارتفاع، مثلما حدث بالنسبة لأسعار النفط. ارتفاع أسعار السلع التجارية يعرض معظم دول العالم لصدمة تضخم مستورد، الأمر الذي سيرفع من درجة عدم التأكد ومن ثم يؤثر سلبا في الآفاق المستقبلية للنمو في العالم. من ناحية أخرى، فإن بعض المحللين ينظر إلى سيناريو التضخم الركودي Stagflation على أنه السيناريو الأكثر احتمالا، وذلك استنادا إلى أنه إذا كان التيسير الكمي سيفشل في دفع النمو الذاتي للاقتصاد الأمريكي، فإن تزايد الأجور في البلاد الناشئة التي تستورد منها الولايات المتحدة احتياجاتها سيرفع من معدلات التضخم المستورد، أي أن الولايات المتحدة ربما لا تستطيع أن تواجه التضخم من خلال الواردات الرخيصة، خصوصا أنه مع تراجع قيمة الدولار ستميل أسعار السلع التجارية في العالم نحو التزايد، كما سبقت الإشارة إلى الارتفاع، لتضيف مزيدا من الوقود إلى نار التضخم المتوقع.

الأثر الثالث هو أن المشكلة الأساسية في الخطة الحالية هي أنه من المتوقع أن يترتب عليها تغير واضح في الأوضاع النسبية للعملات العالمية بالنسبة للدولار، وهو ما ينعكس على القدرات التنافسية لعدد كبير من الدول بما فيها الصين، حيث ستؤدي خطة التيسير الكمي إلى تزايد الضغوط على اليوان نحو الارتفاع، وهو الأمر الذي حاولت الصين جاهدة طوال السنوات السابقة أن تتجنبه، وذلك من خلال التدخل المكثف في سوق الصرف الأجنبي للحفاظ على اليوان أقل من قيمته الحقيقية. من خلال خطة التيسير الكمي تجبر الولايات المتحدة الصين على أن ترفع قيمة اليوان في مواجهة الدولار الضعيف، ومن ثم فإن ما كانت تطالب به الولايات المتحدة عن طريق التفاوض، أصبحت تحصل عليه الآن من خلال وضع الصين أمام الأمر الواقع. مثل هذه الأوضاع يمكن أن تجر دول العالم إلى محاولة الدفاع عن مصالحها من خلال ردود أفعال وقائية، أو انتقامية، تشكل الأرضية اللازمة لانطلاق حرب للعملات على نطاق واسع، وهي مسألة أعتقد أنها ستكون أحد المحاور الأساسية في الاجتماع القادم لمجموعة العشرين.

الأثر الرابع هو استمرار تراجع قيمة الدولار بصورة حادة في أسواق الصرف الأجنبي، وهو ما يضع الدول التي تربط عملاتها بالدولار مثل دول الخليج، وكثير من الدول النامية في العالم في خطر، حيث تصبح تلك الدول مجبرة الآن على أن تستورد السياسة النقدية للاحتياطي الفيدرالي الذي يتبع سياسات فضفاضة، والتي ربما تكون سياسات مناسبة لأوضاع الاقتصاد الأمريكي، ولكنها بالتأكيد تعد غير مناسبة لتلك الاقتصادات، بصفة خاصة بالنسبة للاقتصادات الناشئة التي تعد أسرع دول العالم نموا، ومن المؤكد أن مثل هذه السياسات سيترتب عليها آثار معاكسة في النمو، نتيجة ارتفاع أسعار الأصول. لا شك أن معظم هذه الدول ربما يحتاج إلى إعادة النظر في ربط عملاتها بالدولار لتفادى الآثار السلبية للسياسة النقدية الفضفاضة للاحتياطي الفيدرالي، ولكن المشكلة الأساسية تتمثل في أن الخيارات أمام هذه الدول تعد محدودة للغاية في ظل نظام نقدي عالمي وحيد العملة تقريبا، وحتي يتغير هذا الوضع ستستمر الولايات المتحدة تصدر التضخم لهذه الدول من خلال سياساتها النقدية الفضفاضة.

الأثر الخامس، هو في الدول التي تحتفظ باحتياطيات ضخمة من الدولار، التي تشعر الآن أنها في ورطة كبيرة، مثل الدول الناشئة، بصفة خاصة الصين، التي تجد نفسها في موقف لا تحسد عليه. من وجهة نظر الصين فإن خطة التيسير الكمي ستؤدي إلى تحقيق أضرار أكثر من المنافع المتوقعة لها، والحقيقة عندما نحلل الآثار المحتملة للتيسير الكمي في الصين سنجد أن مخاوف الصين مبررة إلى حد كبير، فاحتياطياتها الضخمة من الدولار تتراجع في القيمة، بينما تجد أن الخيارات المتاحة أمامها للتعامل مع هذه المواقف محدودة جدا، حيث لا تستطيع للأسف أن تفعل شيئا في الأجل القصير، لأن أي تحرك على نطاق واسع من جانب الصين للتخلص من احتياطياتها الدولارية يمكن أن يترتب عليه انخفاض كبير في قيمة الدولار تدفع ثمنه الصين وليس الولايات المتحدة.

الموقف الصيني إذن في غاية الدقة، إذا علمنا أنه على الرغم من احتفاظ البنك المركزي الصيني بـ 2.5 تريليون دولار من الاحتياطيات إلا أنه يفتقر إلى أدوات متطورة لتعقيم آثار مثل هذه الاحتياطيات والحد من الآثار التضخمية التي يمكن أن تنتج عنها. بعض المستشارين ينصح الحكومة الصينية بتحويل هذه الاحتياطيات إلى ذهب أو نفط، أو أصول أخرى وهي نصيحة في منتهى الغباء، إذ إن مجرد الإعلان رسميا عن تقييم مثل هذه المبادرات، سيرفع أسعار الذهب إلى عنان السماء، ويجعل القيمة الحقيقية لتلك الاحتياطيات تحت رحمة التطورات في أسعار تلك السلع. خلاصة القول أن الخيارات المتاحة للصين للتعامل مع احتياطياتها الضخمة تعد محدودة جدا للأسف، وليس أمامها من سبيل، على الأقل في الأجلين القصير والمتوسط، سوى الاستمرار في الاحتفاظ بتلك الاحتياطيات في صورة دولارية، وتحمل أعباء السياسات النقدية الفضفاضة للولايات المتحدة.

الأثر السادس، وهو في وجهة نظري، أسوأ نتائج التيسير الكمي، سيكون على الدول الفقيرة، حيث تمثل السلع الأولية مثل الغذاء، عماد الرقم القياسي للأسعار في تلك الدول، وبالتالي من المتوقع أن تواجه تلك الدول فاتورة غذاء ضخمة في موازين مدفوعاتها، فضلا عن تزايد الضغوط التضخمية، مع تراجع قيمة الدولار. الارتفاع المحتمل لأسعار الحبوب الغذائية، سيعيد أزمة الغذاء العالمية إلى الواجهة مرة أخرى، بعد أن كانت قد خبتت جذوتها في أعقاب الأزمة المالية، وما يصاحبها من ارتفاع احتمالات الإصابة بأمراض سوء التغذية وارتفاع معدلات الوفيات. تتصاعد المطالبات اليوم بإيجاد آلية من خلالها يتوصل العالم إلى تقييد قدرة الولايات المتحدة على التوسع في عمليات الإصدار الجديد من الدولار، وهي في وجهة نظري مهمة شبه مستحيلة في الوقت الحالي، وذلك في ضوء عدم توافر عملة عالمية أخرى بديلة للدولار، أو يمكن أن تستعمل بجانب الدولار على نحو ملموس، في ظل هذا الوضع لن يمكن إجبار الولايات المتحدة على مراعاة اعتبارات الاستقرار النقدي الدولي عن طريق تبني سياسات نقدية تأخذ في الاعتبار، ليس فقط مصلحتها الداخلية، وإنما أيضا اعتبارات الاستقرار المالي عالميا. لا شك أن العالم يعيش بالفعل موقفا حرجا للغاية، ويعيد إلى الأذهان الأوقات العصيبة التي عاشها في أوقات الأزمات التي تعرض لها الدولار مسبقا.

الأثر السابع، هو أن هناك مخاوف حقيقية بأن تلجأ بعض دول العالم، بصفة خاصة الدول الناشئة، في محاولة منها للدفاع عن أسواق الأصول بها، إلى وضع قيود على تدفقات رؤوس الأموال لتفادي التدفقات الضارة لرؤوس الأموال الساخنة، بصفة خاصة الدولارية، على أسواق المال بها، حيث يمكن أن يتسبب ذلك في فقاعة أصول في هذه الدول، ولا شك أن تقييد تدفقات رؤوس الأموال عبر العالم سيؤثر سلبا في معدلات النمو الكامن. باختصار شديد، العالم كله، غنيه وفقيره، يقع الآن في مرمى النيران التي أطلقها الاحتياطي الفيدرالي إطار خطته للتيسير الكمي 2 في الأسبوع الماضي. والآن مع تصاعد كل هذا القلق والهجوم العالمي على الدولار، هل يواجه الدولار آثارا ارتدادية على وضعه العالمي كعملة التداول والاحتياط الأولى في العالم، الإجابة هي للأسف لا!. فليس هناك أي بديل جاهز حاليا لكي يحل محل الدولار، والدعوات التي تطلق من وقت لآخر بأن يتم إنشاء نظام عالمي متعدد العملات، هي مجرد صيحات بلا صدى على أرض الواقع، حيث يؤكد هذا الواقع أنه لا يوجد حاليا أمام العالم من خيار، للأسف الشديد، سوى الدولار الأمريكي، وأنه على العالم أن يتحمل تكلفة مثل هذا الوضع، حتى يتغير، شاء أم أبى.

ولكن إلى متى سيستمر الاحتياطي الفيدرالي في اتباع هذه السياسات النقدية الفضفاضة؟ الذي يبدو لي هو أنه من الواضح أن إدارة الرئيس أوباما عازمة على الخروج من الأزمة بأي ثمن، إذ لا بد للإدارة الأمريكية الحالية أن تعيد تهيئة الأرضية بصورة مناسبة قبل انتخابات التجديد للرئيس، الذي أصبحت حظوظه حاليا في إعادة انتخابه محدودة بعد الهزيمة القاسية التي تعرض لها حزبه في انتخابات التجديد النصفي التي جرت منذ أيام، وحيث ستكون مهمة الفريق الاقتصادي للرئيس أصعب في ظل التركيبة الحالية للكونجرس ومجلس الشيوخ، فمن المؤكد أن نواب الحزب الجمهوري، الذين أصبح لديهم أغلبية الآن، سيقاومون بشدة أي محاولات من قبل الحزب الديمقراطي لتعديل الأوضاع الاقتصادية الداخلية، وذلك لتعزيز فرص فوز حزبهم بالرئاسة في الانتخابات القادمة. ولذلك لن استغرب أن نقرأ عن خطط تيسير كمي 3 و4 وهكذا، حتى تستعيد قوى النمو عزمها الذاتي، ويبدأ الاقتصاد الحقيقي في النمو بعيدا عن قوى التحفيز، وتنخفض معدلات البطالة ربما إلى 7 في المائة أو أقل قليلا، حتى تتكون لدى الرئيس أوباما مجموعة من المؤشرات الإيجابية على المستوى الكلي ليتمكن من أن يخوض بها الانتخابات المقبلة، وبعدها من المؤكد أن سياسات التحفيز ستتراجع، عندها ستواجه الأسواق أزمة من نوع آخر، حيث ستنخفض أسعار الأصول، بصفة خاصة الأسهم، وكذلك سيواجه المضاربون في الذهب أخشى ما يخشون.

بقي أن أشير إلى أن خطة التيسير الكمي لا تعني أن الاحتياطي الفيدرالي سيدير ماكينات طبع الدولار ليل نهار لطباعة المليارات اللازمة من الدولارات لتنفيذ الخطة، هذا الاعتقاد غير صحيح، بالعكس ربما لا يطبع الاحتياطي الفيدرالي دولارا واحدا في إطار عملية التيسير الكمي، ذلك أن الدولارات الجديدة التي ستتم إضافتها إلى الأساس النقدي في الولايات المتحدة ستتم إضافتها إلكترونيا، أي على هيئة قيود في جانب الالتزامات في ميزانية الاحتياطي الفيدرالي، ثم تحول هذه الالتزامات إلى حسابات للمؤسسات المالية لدى الاحتياطي الفيدرالي في صورة احتياطيات عند قيامه بشراء السندات منها، ليقوم بعد ذلك بتعلية جانب الأصول لديه بقيمة هذه السندات، بمعنى آخر ليس هناك طباعة فعلية لمزيد من الدولارات، ولكن هذا لا يعني أن ذلك لن يحدث الأثر نفسه في عرض النقود، بالعكس مع تزايد عمليات الائتمان سيتسع عرض النقود ومعها الضغوط التضخمية.

وأخيرا، وبغض النظر عن الصورة التشاؤمية التي وردت في هذا المقال، فإن الأمة الإسلامية تستعد لاستقبال عيد الأضحى المبارك بعد أيام، وبهذه المناسبة أتوجه إلى جميع القراء بأطيب التهاني والأماني بعيد سعيد، وأدعو الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ أن يعيده عليكم بالخير واليمن والبركات، كل عام وأنتم بخير.