في عطلة نهاية الأسبوع، بدأت بتنظيف خزائني، فوجدت عديدا من الأغراض التي لم أستخدمها منذ أمد بعيد، ولكني في كل مرة أقوم فيها بتنظيف خزائني أتحسر على التخلص منها أو التصدق بها، فلربما احتجت لها في يوم من الأيام. وهكذا يتكرر المنوال كل سنة فأمر على عديد من الأغراض القديمة وأختلق الأعذار للإبقاء على فانلة بنفسجية مهترئة ومتمزقة من الخلف (فقد أحتاج إليها يوماً من الأيام)، أو بنطال لم أعد أتمكن من إغلاقه (فربما ينقص وزني يوماً ما) أو جوال من 10 سنوات (فربما يصبح نادراً لأبيعه بربح كبير). هذه المرة، ولله الحمد، تمكنت من محاربة غرائزي والتصدق بكل غرض لم أستخدمه في العام الماضي. ولكن الأهم من الأمر أني أخذت أفكر: لماذا نحن مجبولون على التمسك بمقتنياتنا لهذا الحد؟ الجواب وجدته في علم الاقتصاد السلوكي وفي مفهوم ''تجنُّب الخسارة''.
فالاقتصاد السلوكي أثبت من خلال عديد من التجارب أن الإنسان يكره الخسارة أكثر من حبه للربح (هذا يعني أن خسارة 100 ريال تحقق ضررا أكبر في نفس الإنسان من المنفعة التي يحققها ربح 100 ريال)، وهذه الظاهرة أطلقوا عليها تسمية ''تجنب الخسارة Loss Aversion''. وهذا يعني أن المرء يكون في العادة مستعداً لتكبد عناء وتكلفة أكبر لتجنب الخسارة من استعداده لتكبد العناء نفسه أو التكلفة في سبيل تحقيق الربح، بل إن علماء الاقتصاد السلوكي يقدرون أن التكلفة التي نستعد لتحملها في سبيل تجنب الخسارة تبلغ ضعف التكلفة التي نستعد لتحملها في سبيل تحقيق الربح. وهذه الظاهرة هي التي جعلتني كثير التردد لدى تخلصي من أغراضي القديمة، إذ إن فكرة خسارتها كانت شديدة التأثير في (بالرغم من أني تكبدت مبالغ كبيرة لتخزينها وتنظيفها وترتيبها)، بينما لو لم أكن أمتلكها في الأصل فقام شخص بإهدائها لي لما كنت قبلتها أصلاً (لعدم حاجتي لأي منها).
في السياق نفسه، فإن ظاهرة ''تجنب الخسارة''، التي تجعلنا نزيد من أهمية الممتلكات التي بحوزتنا فنتأثر بفقدانها هي نفسها التي تجعلنا نقلل من أهمية الممتلكات الأخرى التي لا نملكها فلا نسعى للحصول عليها، لأننا لا نفكر أن نتنازل عن أي من ممتلكاتنا الحالية للحصول على شيء جديد منها، لأننا نعتبر فقدان الشيء الذي بحوزتنا بمثابة الخسارة، بينما الحصول على شيء جديد بمثابة ربح، وعديد من التجارب أثبتت كما سبق أن أثر الخسارة يعادل ضعف أثر الربح تقريباً.
ومن هذا لنا عدد من التوصيات التي يمكننا أن نترجمها في حياتنا اليومية:
أولاً: كن واعياً دائماً برغبتك (غير المنطقية أحياناً) بتجنب الخسارة، مما يجعلك تحتفظ بالحاجات أكثر مما ينبغي. فكم منا حصل على هدية سخيفة فظل يبقيها لأنه خاف من أن يتحسف لدى تخلصه منها، فربما احتاج إليها يوماً ما (ولكن هذا اليوم عادة لا يأتي). لذا فإن القاعدة السهلة هي التشجع والتخلص من أي شيء لا تحتاج إليه في وقتك القريب وعدم تحويل حياتك ومنزلك لمخزن.
ثانياً: بالمقابل كثير منا يتخوف من التجارب الجديدة، سواء في المنتجات أو الخدمات أو التجارب، وذلك خوفاً من ألا تكون ناجحة فـ (يخسر) المبلغ، الذي دفعه فيها والزمن الذي أمضاه لتجربتها. وهذا الخوف من الخسارة يجعلنا في كثير من الأحوال أسرى لعاداتنا. وإذا اكتشفنا أن خوفنا من المخاطرة هو أمر غير منطقي (وإن كان طبيعياً لدى أغلبية البشر) فلعل ذلك يشجعنا على مزيد من التجارب وأخذ مزيد من المغامرات.
ثالثاً: إياك ثم إياك ثم إياك التفكير بأسلوب ''تعويض الخسارة'' فعديد من المستثمرين الذين خسروا مبالغ كبيرة مع انخفاض الأسواق سيطرت عليهم عقلية ''تعويض الخسارة'' فبدأوا يأخذون مغامرات كبيرة بأموالهم أملاً في تعويض ما خسروه، ولكن لو كانت المبالغ التي بحوزتهم اليوم هي المبالغ التي بدأوا بها لما فكروا يوماً بأخذ القدر نفسه من المخاطرة (بالرغم من أن احتمال الربح هو نفسه في الحالتين). وهذا الأسلوب في التفكير كثير الانتشار بين معشر المقامرين، الذين يخسرون مبالغ كبيرة فيأخذون مغامرات أكثر وأكثر مخاطرة أملاً في تعويض ما خسروه، الأمر الذي يؤدي بهم في كثير من الأحوال إلى حافة الهلاك.
لا اعرف ما الذي ارغب بأن اقوله لك سيدي محمد القويز لاكن سوف اكتفي بكلمة شكراً والف الف شكر على هذه المقالات النيرة والتي تفيد المجتمع برمته لا تحرمنا عزيزي من قلمك المتميز