صناعة البتروكيميائيات السعودية: التحديات الحالية وخيارات المستقبل

29/11/2025 6
م. خالد بن محمد الداود

هذه المقالة هي محاولة لتقديم قراءة مبّسطة وموضوعية لواقع صناعة البتروكيميائيات السعودية، والتحديات البنيوية التي تواجهها اليوم، مع طرح رؤية شخصية لما قد تبدو عليه خيارات المستقبل لضمان استمرار دور المملكة لاعبا مؤثرا في هذه الصناعة العالمية، واعتذر للقارئ على الإطالة، كون المقال موجها للمهتمين والمستثمرين في هذا القطاع تحديدا.

مقدمة: دورة صعود وهبوط غير مسبوقة

ذكرت في مقابلة مع موقع "أرقام" خلال مؤتمر جبيبكا 2021 أن منتجات البتروكيميائيات ستواجه ضغوطا سعرية قريبا نتيجة زيادة كبيرة مرتقبة في المعروض العالمي، وقتها بدا الحديث غير مرحب به وسط موجة تفاؤل ناتجة عن تعافي ما بعد الجائحة، لكن ما حدث لاحقا كان حتميا فقد تفوق العرض على الطلب، وبدأت الأسعار رحلة هبوط طويلة وصلتت بنا إلى قيعان تاريخية، مما خلق حالة من الإحباط وعدم اليقين بين الشركات والمستثمرين.

تسبب ت تحليلات متداولة في خلق قدر من الالتباس وخلط الحقائق في بعض الأحيان. لذا رأيت ان أقدم قراءة مبسطة لسوق البتروكيميائيات خلال الثلاثين عاما الفائتة والتغيرات الكبيرة الحالية في هيكلية هذه السوق الحيوية، مع محاولة تسليط الضوء على بعض أخطاء اللاعبين الكبار في هذه السوق التنافسية، والتي صعبت إدارة هذه المرحلة المعقدة. بالإضافة لهذه القراءة المبسطة سأقدم مقترح رؤية للتعامل مع مستقبل سيكون من وجهة نظري مختلف كثيرا عما اعتدنا عليه من دورات سعرية سابقة كانت فيها أسعار البتروكيميائيات تتحرك صعودا وانخفاضا كسلعة أساسية في سوق متزنة تتأثر حصرا بأساسيات نظرية العرض والطلب ومرونة التسعير.

نشأة وتطور الصناعة السعودية: ميزة اللقيم والموقع الجغرافي والبنية التحتية الممتازة

دخلت السعودية عالم البتروكيميائيات عبر شركة سابك في أواخر السبعينيات برؤية كان دافعها الأساسي الاستفادة من القيمة الكيميائية لموارد الغاز المصاحب لإنتاج النفط والذي كان يتم حرقه سابقا. ومع أسعار لقيم تنافسية ثابتة كانت الأقل عالميا ودعم حكومي واسع وبنية تحتية ممتازة، أصبحت المملكة قادرة على بناء مجمعات ضخمة قامت على ميزة تنافسية السعر واقتصاديات الحجم والشراكات التقنية مع شركاء عالميين. وبهذه المعادلة وبفضل الانخفاض الكبير لتكلفة اللقيم الغازي مقارنة بالنافثا (مادة مشتقة من البترول وتعتمد عليها معظم مصانع البتروكيميائيات في العالم)، إلى جانب نمو الطلب العالمي الكبير بقيادة آسيا، تمّكنت الشركات السعودية من تحقيق أرباح استثنائية معظم فترات هذه الحقبة (أعوام 2004 – 2008: أكثر من 100 مليار ريال، وعامي 2021 – 2022: أكثر من 70 مليار ريال).

ومع ذلك، وعلى الرغم من التميز الصناعي والتشغيلي للشركات السعودية والذي يصعب إيجاد مثيل له، شهدت بعض الشركات البتروكيميائية تبني نماذج اقتصادية غير مجدية، وإخفاقات في ضبط النفقات التشغيلية وتضخم في تكاليف المشاريع الرأسمالية بما في ذلك استثمارات و استحواذات خارجية غير موفقة، ما حد قدرتها على مواجهة الدورات الاقتصادية المعاكسة بكفاءة.

ديناميكيات السوق العالمي: توسع مفرط وصدمات هيكلية

ولمحاولة تقريب الصورة وفهم أثر محركات الاقتصاد الكلي العالمي على اتجاهات أسعار المنتجات البتروكيميائية لهذه الحقبة، يمكن القول ان حجم الاقتصاد العالمي تضاعف تقريبا 250%، خلال الثلاثين سنة الفائتة، بينما زادت امدادات النفط، بنسبة 60%، تقريبا وتضاعفت طاقة الإنتاج الكلية للمواد البتروكيميائية لأكثر من 350%، أي أن طاقة انتاج المواد البتروكيميائية وحجم الطلب تفوق على كلا من الناتج العالمي وإمدادات النفط من حيث سرعة النمو، مع فترات طويلة كان  سعر برميل البترول فيها هو أداة التوازن السعري. مع التنويه ان الإضافات في الطاقة الإنتاجية البتروكيميائية كانت منضبطة في بدايات هذه الحقبة، وفقدت هذا الانضباط مؤخرا مع اندفاع الصين وبعض الشركات العالمية للاستثمار في الكثير من المشروعات العملاقة (عالية التكلفة) والتي أقرت في  فترة الطلب الفائقة على المنتجات (2014 - 2019) وما زالت تدخل الخدمة حتي الان، ولهذا السبب تستمر الطاقة الإنتاجية للبتروكيميائيات في الزيادة وتخلق اختلالات كبيرة بين العرض والطلب، حيث زاد العرض عن الطلب بنسبة 20% لبعض هذه المنتجات حاليا.

وفيما يخص البترول تشير الدراسات الى ان إجمالي إمدادات السوائل النفطية (خام، سوائل الغاز الطبيعي، المكثفات وغيرها)، بلغ حوالي 105 مليون (برميل/يوم)، في 2024، علما ان النفط الصخري الأمريكي (Oil Tight/Shale)، هو ما مّكن نمو إمدادات النفط العالمية بمعدل 1.5% سنويا والحفاظ على أسعار النافثا ضمن حدود معقولة بالرغم من انخفاض انتاج الكثير من الحقول التقليدية.

خريطة العرض والطلب العالمي (2024): اختلالات واضحة

جانب العرض – أكثر من 700 مليون طن من منتجات البوليمرات والسوائل سنويا. حيث يمثل التغليف والسلع الاستهلاكية والسيارات والبناء أكثر من 75 %من محركات النمو، وحصص اكبر الدول كالتالي :-

  • • الصين: 40%
  • • الولايات المتحدة: 15%
  • • الخليج: 15%
  • • أوروبا: 13%
  • • بقية آسيا: 17%

جانب الطلب – أقل من العرض بحوالي 7 %حصص اكبر الدول منها:

  • • الصين: 35 - 40%
  • • أمريكا: 20%
  • • أوروبا: 20%
  • • بقية العالم: 20%، حصة دول الخليج : 3%منها.

المشهد الحالي ببساطة هو ان الصين تقود السوق في العرض والطلب معا، بينما يظل المنتجون الخليجيون والأمريكيون الأكثر تنافسية. أما أوروبا وبقية آسيا فمهددتان بعدم القدرة على البقاء، ليصبحوا مستهلكين على المدى الطويل.

سيناريو السوق طويل الأجل (ما بعد 2030) : 

لن أدخل في تفاصيل هذا السيناريو. ولكن من المرجح ان يستقر انتاج النفط الصخري ويبدأ بالتناقص، ويزداد تقييّد الاستثمار في الموارد التقليدية، ويتوازن العرض والطلب لمعظم المنتجات البتروكيميائية، وسينتج عن ذلك ارتفاع أسعار اللقيم (بالقيمة الحقيقية)، وتحسن هوامش الربح لمستخدمي الغاز وسوائله. وسيكون الرابح الأكبر هم المنتجون الخليجيون والأمريكان والذين يملكون تكاملا منخفض التكلفة مع المواد الأساسية Upstream وسيملكون مواقع قوية في منتجات متخصصة ومنتجات عالية القيمة، حيث سيكونون في وضع هيكلي أفضل بكثير من منتجي السلع البتروكيميائية الأساسية غير المتكاملين.

سيناريو قصير الأجل والتحدي الأكبر: المنتج الصيني ومنافسة وجودية

لم تتعامل الشركات السعودية سابقا مع منافس يتبنى استراتيجية الهيمنة الشاملة كما تفعل الصين اليوم، ولديها مزايا تنافسية عديدة، منها: -

  • • دعم حكومي كبير
  • • تكلفة رأسمالية منخفضة
  • • قبول بهوامش ربح ضعيفة مقابل حصة سوقية
  • • صادرات حتى الإغراق لمنتجات البروبلين وبقية الأوليفينات والسوائل

لذا لا يمكن الدخول في معركة أسعار معها. فالصين تملك طول نفس مالي وصناعي لا يمكن مجاراته دون خسائر كبيرة، والبديل هو اللعب على نقاط ضعف المنافس: -

  • • بعد المسافة عن الكثير من الأسواق
  • • ضعف خدمات ما بعد البيع
  • • عدم الاهتمام بعالقات شراكة طويلة المدى
  • • محدودية جودة الخدمات اللوجستية وعدم مرونة الإمداد

وهذا يفتح الجال امام المنتجين السعوديين لبناء ميزات تفضيلية مستدامة عبر: -

  • • خدمة لوجستية أفضل
  • • دعم فني مستمر وبرامج ولاء للعملاء
  • • شراكات محلية في الأسواق المستهدفة
  • • تفعيل آليات الإغراق ضد الصين عند البيع دون التكلفة الحقيقية بالتعاون مع الشركاء المحليين

خيارات السعودية في ضوء استراتيجيات الصين — السيناريو الأول: الصين تتبني سياسة الهيمنة

قد تواصل الصين نهجها الحالي في الاستمرار بإطلاق المشاريع رغم تخمة المعروض، وتلبية كامل الطلب المحلي داخليا ثم تصدير الفائض، مع تشغيل المصانع بمعدلات عالية اعتمادا على تمويل حكومي كبير على حساب الهوامش الربحية. في هذا السيناريو ستبقى الأسعار العالمية عند حدودها الدنيا قرب تكلفة التشغيل ولفترة طويلة، وسيكون أكبر الخاسرين: أوروبا وآسيا، ثم المنتجون الخليجيون والأمريكيون. وسيكون أفضل رد سعودي هو: -

  • • عدم منافسة الصين على السعر
  • • التعامل بإيجابية مع إمكانية صناعة تكتلات تجارية/سياسية يتم تفضيل الموردين ”الأصدقاء فيها“(أمريكا، بريطانيا
  • المكسيك،....) مقابل ”الآخرين“.
  • • توجيه الصادرات لأسواق بعيدة عن الصين (أمريكا اللاتينية، وتركيا ومصر وأفريقيا)
  • • استخدام المشاريع المشتركة داخل الصين لخدمة المنافسة (عن طريق الدفع لخفض معدلات الإنتاج)
  • • الصعود في سلسلة القيمة والتخصصية
  • • الاستفادة من ميزة الانبعاثات المنخفضة أمام البتروكيميائيات المنتَجة من الفحم
  • • الاستحواذ على أصول متعثرة في أسيا وأوروبا ونقل انتاجها للمملكة (زيادة سعة الإنتاج دون ادخال سعات جديدة)

السيناريو الثاني: تخلي الصين عن سياسة الهيمنة مع مزيدا من التنسيق مع الأخرين (الاحتمال الأقرب)

من المرجح ان تتجه الصين لتبني سلوك أكثر تنسيقا، بحيث يتم إبطاء القرارات الاستثمارية الجديدة وإلغاء المشاريع الهامشية، مع تشغيل المصانع عالية الكفاءة بمعدلات جيدة دون الإغراق. هنا سترتفع الأسعار تدريجيا وتتحسن معدلات التشغيل العالمية، وستعلب الصين دور المنتج المرجح، وسيكون أفضل رد سعودي:-

  • • الإسراع في التركيز على الجودة والتوعية وبناء مصانع للمواد المتخصصة ومواد القيمة المضافة
  • • الاستفادة من استقرار السوق لتعزيز الاعمال المشتركة مع شركاء اوربيين وشرق اوسطيين لخدمة هذه الأسواق عن طريق التصدير من المصانع السعودية (أمريكا اللاتينية، وتركيا ومصر وافريقيا)
  • • الاستحواذ على أصول متعثرة في آسيا وأوروبا ونقل انتاجها للمملكة (زيادة سعة الإنتاج دون إدخال سعات جديدة)
  • • تعزيز عقود التوريد طويلة الأجل للأسواق المستهدفة.
  • • رفع جودة خدمات العملاء والتميز اللوجستي

فرصة تحويل ضريبة الكربون الأوربية الى ميزة سعودية

تعتمد أوروبا على CBAM ضريبة الكربون لفرض رسوم على الواردات عالية الانبعاثات لحماية منتجيها المحليين وزيادة دخل حكوماتها من الضرائب ومعظم المنتجات الصينية القائمة على الفحم, وستكون الصين المتضرر الأكبر غالبا، ويمكن للسعودية زيادة تنافسيتها عن طريق تركيز أكبر على بعض المنتجات منخفضة الانبعاثات والاستثمار المقنن في الاقتصاد الدائري والمواد المعاد تدويرها لبناء شراكات أوربية طويلة المدى.

الخلاصة: هي معركة ذكاء طويلة الاجل لا معركة حجم

تدخل صناعة البتروكيميائيات العالمية مرحلة جديدة لاتشبه العقود السابقة، فالمنافسة لم تعد على "من يبني مصنعا أكبر " بل ستعتمد المنافسة على مجموعة سمات وعوامل نجاح منها:-

  • • التركيز على تنافسية تكلفة التشغيل والإنشاء الشاملة
  • • مرونة دخول الأسواق عالية المردود وسرعة اتخاذ قرار التعامل مع المتغيرات التشريعية
  • • جودة الخدمات ما قبل وما بعد البيع، وادارات تسويق قوية قادرة على بناء العلاقات وحماية أسواقها
  • • التنافس من خلال الاستدامة
  • • استثمارات انتقائية لا توسعية

مع التأكيد على ان الشركات السعودية قادرة بفضل تجربتها الممتدة لعقود وموقع المملكة الجغرافي وميزة اللقيم وتكامل الصناعة على التكيف وقيادة موجة التحول المقبلة، ان هي احسنت اختيار معاركها.

ملاحظة: تستثني هذه المقالة قطاع الأسمدة بكامل منتجاته(الأمونيا، اليوريا، ومشتقات الأسمدة النيتروجينية) نظرا لاختلاف ديناميكيته عن قطاع البتروكيميائيات.

 

خاص_الفابيتا