يشكّل الوقف والقطاع غير الربحي في المملكة العربية السعودية أحد المكونات المؤسسية الداعمة لمسار التنمية الوطنية. وقد برزت أدوارهما بوضوح ضمن رؤية المملكة 2030، التي نصّت على مستهدف رفع إسهام القطاع غير الربحي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، وتحقيق مليون متطوع سنويًا، مع التوسع في البرامج ذات الأثر الاجتماعي والتنموي. وتعبّر هذه المستهدفات عن رغبة استراتيجية في توسيع نطاق الشراكة المجتمعية، وتنويع أدوات التمويل، وتخفيف العبء عن المالية العامة، وتحقيق عدالة اقتصادية واجتماعية أكثر شمولًا واستدامة.
وتتجلى أهمية هذا القطاع بشكل خاص من خلال ما يمكن تسميته بـ "الدورة الاقتصادية والاجتماعية للأوقاف والقطاع غير الربحي"، وهي دورة مركبة تتكامل فيها الوظائف الاقتصادية والمالية مع الأدوار الاجتماعية والتنموية. فعلى الصعيد الاقتصادي، تسهم الأوقاف في تعبئة فوائض رأس المال من المجتمع، وتحويلها إلى أصول إنتاجية واستثمارية، ثم إعادة تدوير عوائدها في تمويل خدمات عامة أو مشاريع تنموية ذات طابع مستدام. ويُعد هذا النمط من التمويل مكمّلًا للإنفاق العام، بل وأحيانًا بديلًا جزئيًا عنه في بعض المجالات، لا سيما حين يتعرض الإنفاق الحكومي للضغوط أو التقلبات الدورية.
وفيما يخص المالية العامة، فإن الأوقاف توفر وسيلة لتمويل الخدمات الأساسية—مثل التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية—دون تحميل الموازنة العامة التزامات إضافية، خاصة أن مواردها خارجة عن الدورة المالية الحكومية. وعند اتساع نطاق الأوقاف، وازدياد كفاءتها، تصبح أداة فعالة في تخفيف الضغط المالي عن الدولة، وتمكينها من إعادة توجيه الإنفاق نحو أولويات استراتيجية، أو نحو مجالات يصعب أن تغطيها الجهات غير الربحية.
كذلك، تُسهم الأوقاف في دعم الاستثمار الاجتماعي طويل الأجل، عبر تمويل مشروعات في التعليم العالي، والبحث العلمي، والتدريب المهني، وريادة الأعمال، والتنمية الحضرية. وتُعد هذه الميادين من القطاعات التي تتطلب تمويلًا يمتاز بالمرونة والاستقرار، وهو ما لا يتوافر دومًا في أدوات التمويل الربحي أو الإنفاق الحكومي السنوي. ومن خلال هذا النوع من الإنفاق التنموي طويل المدى، تتحول الأوقاف إلى محركات غير مباشرة للنمو الاقتصادي، وتعزيز التوظيف، وتحفيز الإنتاجية المحلية.
أما بقية مكونات القطاع غير الربحي – على أنواعها-، فهي تضطلع بوظائف اقتصادية لا تقل أهمية، إذ تُعد قناة فعالة لإعادة توزيع الدخل، وتحفيز الحراك الاقتصادي المحلي، وتعزيز العدالة الجغرافية في تقديم الخدمات. وتُمارس هذه المؤسسات أدوارًا في إدارة الموارد المجتمعية، وتمكين الفئات الأقل حظًا من الدخول في دورة الإنتاج، لا من خلال المساعدات العينية فحسب، بل من خلال برامج التمكين والتدريب والتوظيف والدعم المؤسسي.
وعلى مستوى الاقتصاد الكلي، يمكن للقطاع غير الربحي أن يسهم في استقرار سوق العمل من خلال توليد وظائف دائمة أو مرنة، تستوعب فئات يصعب دمجها في السوق التقليدي، مثل النساء وكبار السن وذوي الإعاقة. كما يمكن أن يفعّل هذا القطاع الابتكار الاجتماعي، من خلال تطوير حلول غير تقليدية للقضايا التنموية، خاصة في المجتمعات الطرفية والمناطق ذات الأولوية. وعبر هذه الوظائف، يكتسب القطاع غير الربحي موقعًا مؤسسيًا يؤهله لأن يُعامل كأحد دعائم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، لا كقطاع رديف أو طارئ.
ونظرًا لهذا الدور المتعدد والمتداخل، فإن الحاجة باتت ملحّة اليوم للانتقال من مرحلة التقدير العام لأهمية القطاع، إلى مرحلة القياس المنهجي لأثره. ولتحقيق ذلك، لا بد من استكمال بناء منظومة المؤشرات، سواء الكمية أو النوعية، التي تُيسّر تتبع تطور أداء الأوقاف والقطاع غير الربحي، وتُمكّن من تحويل الأثر غير المرئي إلى بيانات قابلة للرصد، والمقارنة، والتحسين المستمر.
فالمؤشرات الكمية الحالية—رغم ضرورتها—تُعنى برصد الامتداد الخارجي للنشاط (عدد الجمعيات، حجم التبرعات، أعداد المتطوعين)، لكنها لا تفسر الكفاءة، ولا تكشف حجم التحول في حياة الأفراد أو المجتمعات. ومن هنا تبرز الحاجة إلى مؤشرات نوعية أكثر تعبيرًا عن الأثر الحقيقي، مثل: مدى مساهمة الأوقاف في خفض الاعتماد على الإنفاق الحكومي، نسبة المستفيدين الذين انتقلوا من الاحتياج إلى التمكين، العدالة الجغرافية في توزيع الموارد، درجة مواءمة المبادرات غير الربحية مع خطط التنمية الإقليمية، جودة الحوكمة، الشفافية، واستجابة القطاع للأزمات، إضافة إلى مؤشرات ترصد أثره في رأس المال الاجتماعي والثقة المجتمعية.
وزارة الاقتصاد والتخطيط، ووزارة المالية، والهيئة العامة للإحصاء، إلى جانب: الهيئة العامة للأوقاف، والمركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي، يُمثلون أهم الجهات لقيادة هذا التوجه، بما يملكونه من ولاية تنظيمية، ومعرفة فنية، وشبكة شركاء واسعة. ويمكن أن يتم تطوير هذه المؤشرات بالتعاون مع الجمعيات والمؤسسات الأهلية، وبدعم من الجامعات ومراكز الأبحاث، على أن تُدرج لاحقًا ضمن أنظمة التصنيف والتمويل والتقارير المؤسسية. كما يمكن أن تُدمج هذه المؤشرات في منصات الأداء الحكومي، وتُوظف في تحسين آليات التراخيص والدعم، لتصبح جزءًا من الحوكمة الفعلية للقطاع، لا مجرد أدوات توصيف.
في ضوء ذلك، فإن استكمال بناء منظومة المؤشرات النوعية والكمية لإسهام الأوقاف والقطاع غير الربحي يُعد ضرورة استراتيجية لتحويل هذا القطاع من مكون مساعد إلى شريك تنموي مستقل. فحين تُقاس الأوقاف والجهات غير الربحية بما تحققه من نتائج وتحولات مجتمعية، لا فقط بما تُنفقه، يصبح من الممكن توجيه السياسات والموارد بفاعلية أكبر، وتعزيز ثقة المجتمع، ودعم صانع القرار بمادة تحليلية واقعية، والارتقاء ببيئة العمل غير الربحي من ثقافة النشاط إلى ثقافة الأثر.
المقالة منشورة في "نشرة الاقتصاد" الصادرة عن جمعية الاقتصاد السعودية، عدد ربيع الأول 1447 هـ - سبتمبر 2025.


