في عالم متغير تقوده التنافسية الاقتصادية والتحولات التنظيمية، أصبحت الثقة بين الشركات والمستثمرين ركيزة أساسية لا غنى عنها. وتأتي الحوكمة والامتثال في صدارة الأدوات التي ترسخ هذه الثقة وتعززها، إذ لم تعد مجرد التزام تنظيمي، بل تحولت إلى ميزة استراتيجية تمكّن الشركات من النمو والاستمرار، وفي هذا السياق، أعلنت هيئة السوق المالية مؤخرًا عن مشروعٍ لفتح السوق المالية الرئيسية أمام جميع فئات المستثمرين الأجانب غير المقيمين، بهدف توسيع وتنويع قاعدة المستثمرين وزيادة حجم السيولة، ويُمثل هذا التوجه امتدادًا لمسار التحول الهادف إلى جعل السوق المالية السعودية أكثر انفتاحًا وعمقًا، الأمر الذي يرفع سقف توقعات المستثمرين ويجعل التزام الشركات بالحوكمة والامتثال عنصرًا حاسمًا في استدامة الثقة، كما يُعد خطوة محورية يسهم في جذب المزيد من رؤوس الأموال الأجنبية، وتعزيز مكانة المملكة كسوق استثماري عالمي يتسم بالعمق والشفافية.
ومن هذا المنطلق، تمثل ممارسات الحوكمة والامتثال أحد المتطلبات الجوهرية لتمكين الشركات من مواكبة هذا الانفتاح وجذب المستثمرين الدوليين وفق أعلى معايير الشفافية والمسؤولية المؤسسية، وتُظهر التجارب أن الشركات التي تعتمد على قواعد حوكمة صارمة وتطبق أفضل ممارسات الامتثال تكون أكثر قدرة على جذب المستثمرين والحفاظ على استدامة أعمالها. فهذه الشركات لا تكتفي بالالتزام بالمتطلبات التنظيمية، بل تسعى إلى مواءمة أنشطتها مع أفضل المعايير العالمية، بما يعزز من شفافيتها ويرفع قدرتها على تلبية توقعات المستثمرين.
ويأتي تطبيق هذه الممارسات ليسهم في بناء علاقات راسخة مع المستثمرين بمختلف فئاتهم، ويوفر بيئة استثمارية مستقرة وآمنة، ويمثل في الوقت ذاته درعًا يحمي الشركات من المخاطر ويعزز من قدرتها على مواجهة التحديات. وبذلك، تتعدد إيجابيات الحوكمة والامتثال لتشمل كونها ركيزة أساسية لعلاقات المستثمرين، ومحركًا لبناء سمعة تجارية رائدة، وشرطًا لتحقيق استدامة الأعمال وتعزيز التنافسية في الأسواق المالية.
الحوكمة: ركيزة الثقة والاستدامة
الحوكمة المؤسسية ليست مجرد لوائح أو تنظيمات، بل هي منظومة متكاملة تُعنى بالشفافية والعدالة والمساءلة. وحسب ما نصّت عليه لائحة حوكمة الشركات الصادرة عن هيئة السوق المالية، فهي الإطار الذي ينظّم العلاقات بين مجلس الإدارة، والإدارة التنفيذية، والمساهمين، وأصحاب المصالح، بما يضمن تحقيق التوازن بين المصالح المختلفة ويعزز من مبادئ الإدارة.
وعندما تطبّق الشركات ممارسات حوكمة قوية، فإنها تبعث برسالة واضحة للمستثمرين مضمونها أن الإدارة تعمل بكفاءة، ونزاهة، وبحس استراتيجي يحمي الحقوق ويعزّز المصداقية. فالحوكمة الفعّالة لا تقتصر على الامتثال للوائح، بل تمثل ركيزة مؤسسية لترسيخ الثقة وبناء سمعة طويلة الأمد.
ومن هنا، تبرز الشفافية كونها جوهر الحوكمة، إذ تتجاوز حدود الإفصاح الإلزامي لتصبح نهجًا للتواصل الفعّال مع المستثمرين من خلال تقارير دقيقة تعكس الأداء والمخاطر والتوجهات المستقبلية، إلى جانب جودة محتوى التقارير السنوية والقوائم المالية.
وفي السوق المالية السعودية، برزت هذه الممارسات لدى العديد من الشركات كمعيار أساسي للتميز والموثوقية، وهو ما يتوافق مع توقعات المستثمرين المحليين والدوليين، ويعكس التزام السوق المالية بمواكبة أفضل الممارسات والمعايير العالمية. كما تُسهم الحوكمة في توزيع الحقوق والمسؤوليات بوضوح بين المساهمين، أعضاء مجلس الإدارة، والإدارة التنفيذية.
هذا الوضوح يعزز ثقة المستثمرين ويؤكد بأن مصالحهم محمية، ويحد من الصراعات الداخلية عبر سياسات واضحة تحدد الصلاحيات والمسؤوليات، مما يقلل من مخاطر سوء الإدارة أو التلاعب بالمعلومات، ويعزز استقرار الشركة ويقوي ثقة المستثمرين.
الامتثال: الضمانة القانونية والميزة التنافسية
ومن ناحية أخرى، لا يعني الامتثال تجنّب العقوبات فحسب، بل هو استثمار طويل الأمد في بناء الثقة والمصداقية. كما يسهم في تعزيز ثقة المستثمرين ويحد من مخاطر السمعة، ما يجعل الشركات السعودية أكثر جاذبية للمستثمرين، والذي يعتمد الكثير منهم على معايير صارمة في اختيار الأسواق والكيانات المستهدفة، بالإضافة إلى مساهمة ممارسات الامتثال في تقليل بعض المخاطر المالية والتنظيمية، والتي قد تؤثر على تصنيفات الشركات ومكانتها في الأسواق الدولية، فالتاريخ مليء بالدروس التي تؤكد ذلك؛ إذ شكّلت فضيحة "إنرون" عام 2001 محطة مفصلية رسّخت قوانين أكثر صرامة مثل "ساربينز-أوكسلي"، وألهمت تطوير الأطر الرقابية في أسواق المال العالمية.
وفي السوق المالية السعودية، تُعد هيئة السوق المالية من الجهات الرائدة في إرساء القواعد التي تلزم الشركات بتطبيق أفضل الممارسات. وقد انعكست هذه الجهود إيجابًا على مكانة المملكة في التقارير والتصنيفات العالمية، فبحسب الكتاب السنوي للتنافسية العالمية الصادر عن المعهد الدولي للتطوير الإداري (IMD) لعام 2024م، ارتفع ترتيب المملكة في 8 مؤشرات من أصل 12 مؤشرًا مرتبطًا بالأسواق المالية مقارنة بالعام 2023م. كما حققت المملكة المركز الأول بين دول مجموعة العشرين والتاسع عالميًا في مؤشر حقوق المساهمين، وهو ما يعكس قوة البيئة الاستثمارية وعمق التحولات التي تشهدها السوق المالية السعودية.
التكامل بين الحوكمة والامتثال
عندما تندمج الحوكمة مع ممارسات الامتثال الرائدة، تتحول إلى درع واقٍ للشركة ورافعة استراتيجية للنمو والريادة، تدعمها ممارسات فعّالة لعلاقات المستثمرين. فهذا التكامل لا يحمي الشركات من المخاطر فحسب، بل يعزز قدرتها على الوصول إلى أسواق المال، وتوسيع قاعدة مستثمريها، وتعظيم قيمتها السوقية والقيمة المضافة لمساهميها.
إن هذا التكامل بين الحوكمة والامتثال يمنح الشركات ميزة تنافسية مستدامة في جذب المستثمرين والاحتفاظ بهم، حيث يرسخ بيئة استثمارية آمنة وموثوقة تعزز الثقة المتبادلة، وتزيد من فرص إدراجها في المؤشرات العالمية مثل MSCI وFTSE، ما يفتح الباب أمام تدفقات استثمارية جديدة من المستثمرين الدوليين ويعزز مكانة السوق المالية السعودية كمركز مالي متطور.
وتظهر قوة هذا النهج بوضوح في كيفية تعامل الشركات مع الأزمات وكفاءة اتخاذ القرار وسرعة الاستجابة للمخاطر؛ وهو ما انعكس على الشركات التي استجابت بسرعة وبشفافية خلال جائحة كوفيد-19، حيث لم تكتفِ بالحفاظ على استقرار أسهمها وثقة مساهميها، بل أظهرت مرونة تشغيلية وقدرة على التكيف مكنتها من اقتناص فرص نمو جديدة. وعلى النقيض، عانت الشركات الأقل التزامًا من تذبذبات حادة، وتراجع في ثقة المستثمرين، وصعوبات في الوصول إلى التمويل.
أثر مباشر على الأداء والتمويل
تتجاوز فوائد الحوكمة والامتثال مجرد تعزيز الثقة، لتنعكس بشكل مباشر على الأداء المالي واستدامة النمو. فالشركات التي تطبق حوكمة قوية تقل فيها المخاطر التشغيلية والمالية، وتزداد قدرتها على جذب رؤوس الأموال واستقطاب المستثمرين المؤسسيين، كما تستفيد من انخفاض تكلفة التمويل وتحسن تصنيفاتها الائتمانية نتيجة وضوح سياساتها وشفافية تقاريرها.
وتؤكد الدراسات العالمية أن الشركات ذات الحوكمة القوية تحقق عوائد أعلى بنسبة تتراوح بين 10 و15% على المدى الطويل مقارنة بنظيراتها الأقل التزامًا، إضافةً إلى تمتعها بقدرة أكبر على الصمود أمام الأزمات والتقلبات الاقتصادية.
وفي السوق المالية السعودية، برزت الشركات التي دمجت معايير الاستدامة ضمن استراتيجياتها كوجهة مفضلة للمستثمرين الدوليين، خاصة بعد انضمام السوق المالية إلى مؤشرات الأسواق العالمية. كما أسهم هذا التوجه في زيادة الاهتمام بالاستثمارات المسؤولة، ما يعكس أن الحوكمة والامتثال لم يعودا مجرد التزام، بل أصبحا وسيلة فعالة لتعزيز القدرة التنافسية عالميًا.
الخاتمة
ختامًا، لم تعد الحوكمة والامتثال خيارًا تنظيميًا، بل تحوّلا إلى ركيزة استراتيجية للثقة والاستدامة. ومع تسارع خطوات المملكة نحو الانفتاح المالي وتحقيق مستهدفات رؤية 2030، فإن الشركات التي تتبنى هذه المبادئ ستكون الأقدر على المنافسة، والأكثر جاذبية لرؤوس الأموال المحلية والعالمية، ومع استمرار المملكة في تعزيز مكانتها كمركز مالي رائد، ستظل الحوكمة والامتثال حجر الأساس لبناء سوق مالية أكثر انفتاحًا وثقة واستدامة.
خاص_الفابيتا