وسط التحولات المتسارعة في الأسواق العالمية، بدأت أدوات التمويل البديلة في فرض حضورها، خاصة في ظل احتياج الاقتصاد الحديث إلى مرونة أعلى في جذب الاستثمارات وتحفيز الابتكار. من بين هذه الأدوات تبرز شركات الاستحواذ ذات الغرض الخاص SPACs، والمنظمات المستقلة اللامركزية DAOs. ورغم تباين النموذجين، إلا أن كليهما يعكس توجهًا جديدًا في آليات التمويل والحوكمة، بما يتماشى مع مساعي المملكة لتعزيز تنوع الاقتصاد وابتكار أدوات تنظيمية أكثر انفتاحًا ومرونة.
شركات SPAC تُؤسس لجمع الأموال عبر سوق الأسهم دون وجود نشاط تشغيلي فعلي، ويكون هدفها الاستحواذ على شركة قائمة خلال فترة زمنية محددة. هذا النموذج أثبت جدارته في الأسواق الأمريكية، وسجل أكثر من 600 إدراج خلال عامي 2020 و2021 فقط. في السعودية، بدأت هيئة السوق المالية أولى خطواتها نحو إدراج هذا النموذج في السوق الموازي “نمو”، حيث أعلنت في أبريل 2025 عن مسودة تنظيمية تسمح بطرح SPACs بشروط تضمن حماية المستثمرين وتحقيق الانسجام مع بنية السوق. من هذه الشروط: إيداع 90٪ من رأس المال في حساب ضمان، وإنهاء صفقة الاستحواذ خلال 24 شهرًا، وضوابط واضحة على مؤسسي الشركة “الرعاة”.
ويأتي هذا التحرك متسقًا مع ما أبرزه التقرير السنوي لبرنامج تطوير القطاع المالي 2024، والذي أكد استمرار زخم السوق المالية السعودية من خلال تحديث القواعد التنظيمية وإطلاق منتجات مبتكرة مثل التمويل الأخضر، والصناديق الاستثمارية السعودية في الأسواق الآسيوية، ومؤشر تاسي 50، وعقود الخيارات للأسهم المفردة — كلها مؤشرات على بيئة تشريعية مرنة تتقبل أدوات مالية جديدة مثل SPAC، وتوفر الأرضية اللازمة لنموها.
في المقابل، DAO تمثل رؤية أكثر جذرية لإعادة تشكيل الكيانات الاقتصادية، حيث تُدار بالكامل عبر تقنية البلوكشين، ولا تخضع لإدارة تقليدية أو هيكل مركزي. كل قرار يُتخذ عبر تصويت الأعضاء الذين يحملون “توكنات” تمثل ملكيتهم أو صوتهم، وتُنفّذ النتائج عبر عقود ذكية بشكل آلي. ورغم أن DAOs لم تُعترف بعد رسميًا في المملكة كنماذج تنظيمية، إلا أن التحول الرقمي السريع، واعتماد تقنيات البلوكشين والهوية الرقمية والمنصات التجريبية في القطاعات المالية كما ورد في التقرير، يفتح الباب أمام DAOs لتكون جزءًا من منظومة التمويل التشاركي والحوكمة المستقبلية.
وقد أشار التقرير كذلك إلى اعتماد النسخة الثانية من إطار المصرفية المفتوحة، وإطلاق خدمات تحقق الهوية الرقمية عبر “الوثيقة الرقمية”، إضافة إلى تفعيل البيئات التشريعية التجريبية — وهي خطوات تعكس استعداد القطاع المالي السعودي لاحتضان نماذج لامركزية مرنة مثل DAOs.
الفارق الجوهري بين SPAC وDAO أن الأولى تعتمد على الإطار القانوني التقليدي لكنها تسرّع عملية الطرح، بينما DAO تُعيد تعريف بنية الكيان الاقتصادي بالكامل. SPAC تُلائم المستثمرين المحترفين الباحثين عن صفقات جاهزة، في حين تُلهم DAO المجتمعات الرقمية والمبادرات التعاونية الطموحة. وفي الحالتين، توفر هذه النماذج حلولًا للتمويل تتجاوز التعقيدات البنكية أو الطرح العام المكلف.
من هنا، فإن دمج هذه النماذج ضمن السوق السعودي لا يعد ترفًا تنظيميًا، بل ضرورة استراتيجية. تبني SPAC سيمنح المستثمرين المحليين أدوات فعالة للدخول في صفقات نوعية، في حين أن استكشاف DAOs ككيانات حوكمة رقمية سيمنح المملكة أفضلية في مجالات الملكيات الرقمية، والتصويت المجتمعي، وإدارة صناديق التمويل الجماعي. والأهم، أن هذه الأدوات تنسجم مع رؤية 2030 التي يواصل برنامج تطوير القطاع المالي تنفيذها بخطى طموحة، تتضمن التحول الرقمي الكامل، وتبني حلول مبتكرة، وتوسيع قاعدة المستثمرين، كما ورد في التقرير.
وبينما تمضي هيئة السوق المالية في تنظيم SPACs بخطى واثقة، من المهم في المرحلة القادمة تطوير أطر قانونية مرنة للتعامل مع DAO. هذا لا يعني نسخ النماذج الأجنبية حرفيًا، بل الاستفادة من التجارب العالمية—مثل الولايات المتحدة التي منحت اعترافًا قانونيًا لبعض DAOs في ولايات مثل وايومنغ، أو الاتحاد الأوروبي الذي يناقش تضمين DAOs ضمن تشريعات الأسواق الرقمية—وإنتاج نموذج سعودي فريد يعزز من تنافسية المملكة على الساحة المالية الدولية.
وفي النهاية، فإن مستقبل التمويل ليس فقط في ضخ رؤوس الأموال، بل في خلق بيئات قانونية مرنة، تستوعب الابتكار، وتحفز الثقة. SPAC وDAO هما وجهان لهذه البيئة المستقبلية التي نتطلع جميعًا لرؤيتها جزءًا من واقعنا الاقتصادي والقانوني في المملكة.