35 مليوناً.. ترسم خريطة وطن

14/07/2025 0
تهاني عبدالله الخيال

ليس مجرد رقم، بل نبض وطن. حين أعلنت الهيئة العامة للإحصاء أن سكان المملكة بلغوا 35.3 مليون نسمة منتصف عام 2024، كانت تلك لحظة تأمل عميقة في مسار دولة لا تعدّ أبناءها فحسب، بل تبني من تعدادهم مستقبلًا يتسع لطموحاتهم ويواكب وتيرتهم المتسارعة، في هذه الأرقام تكمن رواية سعودية جديدة، رواية تتحدث عن تحول هيكلي في المجتمع والاقتصاد والبنية التحتية، وعن دولة لم تترك هذا النمو السكاني ليفرض نفسه، بل قابلته بخطط كُتبت بلغة المستقبل.

رؤية السعودية 2030 لم تكن ردة فعل على تضخم عددي، بل كانت استباقًا استراتيجيًا له. التعداد ليس غاية في ذاته، بل هو أداة تخطيط، قراءة، واستبصار. والحكومة السعودية تعاملت معه كخريطة حيوية لما يجب أن تكون عليه جودة الحياة، توزيع الموارد، وتصميم المدن والفرص. فكل نسمة جديدة تعني مستهلكًا، متعلمًا، موظفًا، ومواطنًا يحمل طموحًا لا يُقاس بالأرقام.

لذلك، حين يُعلن أن غير السعوديين يشكّلون 44.4 % من السكان، لا يُقرأ هذا الرقم كتهديد، بل كمؤشر على عمق الانفتاح الاقتصادي ومرونة سوق العمل. هو تنوع يُثري التجربة، ويمهّد الأرض لاقتصاد أكثر شمولًا، وعلاقات إنتاج أكثر عابرة للثقافات. وهذا ما دفع الدولة لتطوير تشريعات الإقامة، تسهيل بيئة العمل، وموازنة التوطين مع الاستفادة من الكفاءات الدولية.

الحكومة لم تكتفِ بالرؤية، بل بدأت تكتب فصل ما بعدها. فمن "ذا لاين" الذي يُبنى ليُسكن مئات الآلاف في مدينة ذكية خالية من الانبعاثات، إلى "وسط جدة" الذي سيعيد رسم ملامح التمدن على البحر الأحمر، مرورًا بمشاريع مثل "حديقة الملك سلمان" و"القدِية" و"رُؤى المدينة" - كلها لا تعالج الواقع السكاني فحسب، بل تستعد لأضعافه.

السعودية لا تنظر للتعداد بوصفه رقمًا يستنزف الخدمات، بل كمؤشر يوجّه الاستثمارات. فزيادة السكان تعني زيادة في الطلب على السكن، التعليم، الصحة، النقل، وهي القطاعات التي ضخت فيها الحكومة مليارات الريالات لتكون لا مجرد بنية تحتية، بل منصة استثمارية نشطة. وفي بيئة كهذه، يدرك المستثمر الأجنبي أنه يدخل سوقًا واعدة، شابة، ونامية، تخضع لحوكمة واضحة، وتخطيط بعيد المدى.

وهذا هو جوهر فلسفة القيادة: ألا يُفاجئ المستقبل أحدًا، بل يُستقبل بمزيج من الجاهزية والطموح. لذلك كان التعداد السكاني في السعودية هو البداية، لا النهاية. نقطة الانطلاق نحو تصميم اقتصاد يتنفس مع الناس، يضخ الفرص كما يضخ الخدمات، ويعيد صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على قاعدة: كل مواطن ومستقر هو جزء من المعادلة الوطنية.

إن المملكة، وهي تدخل عقدًا ديموغرافيًا جديدًا، لا تعدّ سكانها لكتابة تقارير، بل تعدّهم لتصميم وطنٍ مختلف، أكثر عدلًا في التوزيع، أكثر طموحًا في التوجه، وأكثر جاذبية لكل من يبحث عن الفرصة في قلب الصحراء التي باتت تصنع المعجزات.

في كل رقم من هذا التعداد، وميضُ فرصة، ونواةُ مشروع، وبدايةُ قصة. الأوطان لا تنمو بالعدد فقط، بل بمن يُدرك ما تعنيه هذه الأعداد. وفي وطنٍ مثل السعودية، لا يُحصى الناس لمجرد الإحصاء، بل لتُقرأ فيهم ملامح الغد، ويُستخرج من حاضرهم الوقود الحقيقي لمستقبلٍ أكبر من التوقعات.

من يتأمل هذه المرحلة، سيدرك أن المملكة لا تنتظر من أحد أن يواكبها، بل تُمهد الطريق لكل من يجرؤ أن يتقدم. إنها لحظة نادرة.. حيث يصبح العمر حسابًا للإنجاز، لا للزمن، وحيث يتحول الإنسان من فرد في الإحصاء إلى فاعل في التحول.

فلا تسأل أين سيكون مكانك..بل اسأل: كيف سأكون أنا أحد معالم هذا المكان؟

لأن من يعي معنى هذه المرحلة..لا يمر بها، بل يترك أثره فيها.

 

 

نقلا عن الرياض