تعد علاقات المستثمرين جسراً استراتيجياً حيوياً يربط بين الشركات المدرجة والمجتمع الاستثماري بمختلف فئاته، بما في ذلك المساهمين، المحللين الماليين، والمستثمرين المؤسسيين والأفراد. وتتجاوز هذه العلاقات اليوم حدود المفهوم السائد والمقتصر على الإفصاح المالي فحسب، بل تأتي علاقات المستثمرين لتقدم رؤية شاملة لأهداف الشركة الاستراتيجية، وحوكمتها، واستدامة أعمالها، وأدائها التشغيلي والمالي، مما يساعد في رسم ملامح رؤيتها المستقبلية، وتعزيز الشفافية والثقة مع المستثمرين، وفي الأسواق المالية، تتزايد التعقيدات الاقتصادية وتتغير توقعات المستثمرين من حين إلى آخر، حيث أصبحت علاقات المستثمرين ليست مجرد وظيفة ثانوية، بل شريكاً استراتيجياً يساهم في تعزيز القيمة السوقية للشركة ودعم استقرارها في مواجهة التحديات الاقتصادية والجيوسياسية. وكما أشرنا في مقالنا الأول "تاريخ علاقات المستثمرين ونشأتها"، فقد تطورت هذه الوظيفة من دور ثانوي إلى دور أساسي في نجاح الشركات المدرجة.
وشهدت علاقات المستثمرين في العقد الأخير تحولات كبيرة، مدفوعة بتسارع استخدام التقنيات الرقمية، لا سيما بعد جائحة كوفيد-19، حيث دفعت الشركات إلى الاعتماد بشكل متزايد على الجولات الترويجية الافتراضية والاجتماعات الرقمية أو الهجينة، والتي بدورها سهّلت الوصول إلى المستثمرين، وتوسيع قاعدتهم بكفاءة أعلى وتكاليف أقل. كما قدمت تقنيات التحليل الرقمي تفاصيل أعمق ورؤية شاملة حول اهتمامات المستثمرين وسلوكياتهم، مما ساعد الشركات على صياغة استراتيجيات تواصل أكثر تأثيراً وفعالية.
فعلى سبيل المثال، أتاحت أدوات مثل الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة للشركات فهم سلوك المستثمرين بشكل لحظي، مما مكنها من تخصيص رسائلها بشكل أكثر دقة وفقاً لاحتياجات كل فئة من المستثمرين. وفي الوقت نفسه، ساعدت المنصات الافتراضية لعقد الاجتماعات على تقليل الحواجز الجغرافية، مما فتح المجال أمام الشركات الصغيرة والمتوسطة للوصول إلى شريحة جديدة من المستثمرين الدوليين كانوا في السابق خارج نطاقها.
ومع التحولات الاقتصادية المتسارعة التي يشهدها العالم اليوم، برزت السوق المالية السعودية كنموذج رائد يعكس أهمية علاقات المستثمرين كركيزة استراتيجية تدعم بناء الثقة مع المستثمرين وتحقيق الاستدامة المالية على المدى الطويل. فمنذ انطلاق رؤية المملكة الطموحة 2030، اكتسبت علاقات المستثمرين أهمية مضاعفة كعنصر أساسي في منظومة الأسواق المالية، حيث تلعب دوراً محورياً نحو تطبيق أفضل الممارسات، وتعزيز الشفافية، وجذب رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية، ودعم استقرار الأسواق المالية.
وكأحد مستهدفات رؤية 2030، تسعى المملكة إلى تعزيز جاذبية السوق المالية السعودية كوجهة استثمارية عالمية، وهو ما يتطلب من الشركات المدرجة تبني أفضل الممارسات في علاقات المستثمرين، لضمان تقديم صورة واضحة وشفافة عن أدائها وقدرتها على تحقيق نمو مستدام. على سبيل المثال، أصبحت الإفصاحات المتعلقة بالحوكمة والاستدامة والتواصل المستمر والفعال جزءاً أصيلاً من متطلبات وحقوق المستثمرين، مما يعكس تحولاً في أولوياتهم نحو الاستثمارات المسؤولة.
من الإفصاح المالي إلى الدور الاستراتيجي وفقًا لكثير من المصادر، بما في ذلك دليل أفضل ممارسات علاقات المستثمرين الصادر عن تداول السعودية وتعريف المعهد الوطني لعلاقات المستثمرين (NIRI)، تعتمد علاقات المستثمرين الفعّالة على التكامل بين الإدارات الداخلية للشركة، بما في ذلك – على سبيل المثال لا الحصر – الإدارات التنفيذية، المالية، الاستراتيجية، التشغيلية، والقانونية، بهدف ضمان تقديم رسائل دقيقة وموحدة للمجتمع الاستثماري. يعكس هذا التكامل نهجاً مثالياً لتعزيز وفهم أعمق لطبيعة أعمال الشركة وفرص نموها، والذي بدوره يساهم في تحقيق تقييم عادل لقيمتها السوقية وتعظيم القيمة المضافة لمساهميها. كما تلعب علاقات المستثمرين دوراً محورياً في سد الفجوة بين الشركة وأصحاب المصلحة من خلال قنوات تواصل فعّالة تدعم التفاعل المستمر مع المحللين والمستثمرين. هذا التكامل لا يقتصر على تنسيق المعلومات المقدمة فحسب، بل يمتد ليشمل صياغة استراتيجيات تواصل طويلة الأمد تهدف إلى بناء علاقات مستدامة مع المستثمرين.
وخلال العقد الماضي، توسعت مهام مسؤولي علاقات المستثمرين لتشمل أدواراً استراتيجية أكثر تعقيداً، مثل إجراء تحليلات تنافسية متعمقة، ضمان الامتثال للمتطلبات التنظيمية، المساهمة في مبادرات الاستدامة، ودعم التخطيط الاستراتيجي، متجاوزة بذلك المهام التقليدية التي كانت تتمحور حول التواصل والأحداث المؤثرة على تقييم الشركات وأدواتها المالية. واليوم، أصبحت المعرفة الشاملة بجميع جوانب عمليات الشركة من التوجهات الاستراتيجية إلى إدارة التوقعات المالية والمخاطر عنصراً أساسياً لنجاح هذا الدور.
وكما استعرضنا في مقالنا السابق، كانت علاقات المستثمرين في نموذجها التقليدي تُعتبر امتدادًا لقسم العلاقات العامة أو الإدارة المالية، مما جعلها تصنف كوظيفة ثانوية. أما اليوم، وعلى الصعيد العالمي وتطبيق أفضل الممارسات، تحسن هذا الواقع بشكل ملحوظ؛ إذ يعمل أكثر من نصف مسؤولي علاقات المستثمرين ضمن إدارات مستقلة ومتخصصة، على الرغم من استمرار الهيكلة التقليدية المرتبطة بالإدارة المالية في العديد من الشركات.
ووفقاً لدراسة أجراها ألكساندر لاسكين في العام 2008م، كان معظم مسؤولي علاقات المستثمرين يقدمون تقاريرهم إلى المدير المالي (CFO) بدلاً من الرئيس التنفيذي (CEO). ويُظهر هذا النموذج التقليدي بعض التحديات، حيث يحد من القدرات الاستراتيجية لعلاقات المستثمرين، إذ يتطلب هذا الدور دعماً مباشراً من الرئيس التنفيذي لتحقيق تأثيره الاستراتيجي الكامل. فالتقارير المباشرة إلى الرئيس التنفيذي تتيح لمسؤولي علاقات المستثمرين الوصول إلى رؤية شاملة لاستراتيجيات الشركة، مما يمكنهم من صياغة رسائل متسقة ومؤثرة للمستثمرين.
لهذا السبب، تبرز أهمية الهيكلة المؤسسية المستقلة التي تجعل علاقات المستثمرين تتبع مباشرة للرئيس التنفيذي، ما يضمن إطلاعهم الشامل على توجهات الشركة الاستراتيجية، ويعكس الأهمية الاستراتيجية لهذا الدور في تعزيز الشفافية وبناء الثقة مع المجتمع الاستثماري، مع تمكين مسؤولي علاقات المستثمرين من تقديم معلومات دقيقة حول آراء السوق للإدارة العليا ومجلس الإدارة. كما أن هذه الهيكلة لا تعزز فقط من فعالية علاقات المستثمرين، بل تتيح أيضاً للشركات الاستجابة بسرعة لتغيرات السوق وتوقعات المستثمرين، مما يساهم في تعزيز مكانتها التنافسية.
ومع ذلك، سهولة الوصول والعمل المباشر والمرن مع المدير المالي لا يقل أهمية في بعض السياقات، حيث أن المجتمع الاستثماري يبحث دائمًا عن معلومات دقيقة ومباشرة من المدير المالي، وهي الفرصة التي قد تتيحها بعض الشركات بعد نشر نتائجها المالية من خلال الاجتماعات الافتراضية مع المستثمرين والمحللين الماليين لمناقشة النتائج المالية. ففي السوق المالية السعودية، أصبحت هذه الاجتماعات أداة رئيسية لتعزيز الثقة، حيث تتيح للمستثمرين التفاعل المباشر مع الإدارة العليا وبالأخص المدير المالي لفهم النتائج المالية وتأثيرها على التوقعات المستقبلية، مما يعكس التكامل بين الأدوار التنفيذية وعلاقات المستثمرين.
وفي سياق رؤية 2030، تبرز هذه التطورات كجزء من جهود المملكة لتعزيز جاذبية السوق المالية. فقد شجعت هيئة السوق المالية وتداول السعودية الشركات المدرجة على تبني ممارسات علاقات المستثمرين، مما يتماشى مع أفضل الممارسات العالمية. على سبيل المثال، تم اصدار عدد من اللوائح الاسترشادية للشركات تعكس أهمية تعيين مسؤولي علاقات مستثمرين مختصين، مما يعزز من قدرة الشركات على التواصل الفعّال مع المستثمرين وتلبية توقعاتهم.
إن هذا التحول نحو هيكلة مستقلة وأدوار استراتيجية موسعة يعكس الدور المتزايد لعلاقات المستثمرين كمحرك للنمو والاستقرار. فمن خلال تمكين مسؤولي علاقات المستثمرين من العمل بشكل وثيق مع الإدارة العليا، سواء عبر الرئيس التنفيذي أو المدير المالي، تستطيع الشركات بناء جسور ثقة قوية مع المستثمرين، مما يدعم تحقيق أهدافها الاستراتيجية في بيئة اقتصادية ديناميكية.
وبالتالي، أصبحت خبرة وكفاءة مسؤولي علاقات المستثمرين عاملاً حاسماً في تعزيز القيمة السوقية العادلة للشركة وضمان استدامتها على المدى الطويل، مما يتطلب إعادة تقييم هيكلة هذا الدور لمنحه دوراً أكثر استقلالية وتأثيراً استراتيجياً يتجاوز الإطار المالي التقليدي. وفي ظل هذه المتغيرات، تحولت علاقات المستثمرين إلى استراتيجية مؤسسية متكاملة تهدف إلى بناء الثقة وتعظيم القيمة للشركة ومساهميها، متجاوزة بذلك دورها التقليدي لتصبح ركيزة أساسية لنجاح الشركات المدرجة في الأسواق المالية.
نظرة مستقبلية
إن تطبيق أفضل الممارسات العالمية في علاقات المستثمرين يشكل ركيزة أساسية لنجاح الشركات، لا سيما في ظل التطورات المتسارعة التي تشهدها المملكة والسوق المالية السعودية، حيث تسهم في تعزيز الثقة، جذب المستثمرين، وضمان الشفافية لتحقيق الاستقرار المالي والنمو المستدام. فمع تزايد المنافسة في الأسواق المالية العالمية، أصبح من الضروري أن تتبنى الشركات السعودية استراتيجيات متقدمة في علاقات المستثمرين لتتمكن من جذب المستثمرين الدوليين وتعزيز مكانتها كوجهة استثمارية رائدة.
ومع استمرار المملكة في مسيرتها نحو تنويع الاقتصاد وتحقيق مستهدفات رؤية 2030، وفي ظل التطورات المتسارعة التي تشهدها السوق المالية السعودية، ستشهد علاقات المستثمرين طلباً متزايداً يدفع الشركات لتبني استراتيجيات مبتكرة وأكثر مرونة تتماشى مع تلك المتغيرات. ومع زيادة التركيز على تعزيز جاذبية السوق، ستتمكن الشركات التي تستثمر في برامج علاقات مستثمرين قوية من تحقيق ميزة تنافسية، والمساهمة في تشكيل سوق مالية متطورة ومستدامة.
وفي الختام، فإن هذا التطور سيفتح آفاقاً جديدة للشركات المدرجة في السوق المالية السعودية، وسيساهم في ريادة السوق المالية السعودية لتصبح نموذجاً عالمياً مستداماً يجسد طموحات رؤية المملكة 2030، حيث ستصبح قادرة على استقطاب استثمارات أكبر وأكثر تنوعاً، مما سيعزز من مكانتها في الاقتصاد العالمي ويسهم في تحقيق الاستدامة الاقتصادية التي تهدف إليها رؤية 2030.
خاص_الفابيتا