مقدمة
تعتبر التوترات السياسية من العوامل الحاسمة التي تؤثر بشكل كبير في بيئة الاستثمار العالمي. فمع تزايد التوترات السياسية في بعض المناطق، سواء كانت مرتبطة بالحروب التجارية، أو النزاعات الجيوسياسية، أو عدم الاستقرار السياسي الداخلي في بعض الدول، فإن اتجاهات الاستثمار الأجنبي المباشر يتأثر بشكل كبير. يهدف هذا المقال إلى استعراض تأثير التوترات السياسية المرتبطة بالحروب التجارية على اتجاهات الاستثمار الأجنبي المباشر، والفرص المتاحة للمملكة العربية السعودية.
في السنوات الأخيرة، شهد العالم تصاعدًا ملحوظًا في حروب التجارة الدولية، خاصة بين القوى الاقتصادية الكبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية والصين. وزادت حدة هذه الحروب في الأونة الأخيرة مع بداية الولاية الثانية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب والتي قام بفرض رسوم جمركية على السلع المستوردة من كندا والمكسيك والصين بلاضافة إلى فرض رسوم جمركية على جميع السيارات المستوردة وغيرها. في وقت تترقب فيه الأسواق العالمية تفاصيل خطة ترمب للرسوم الجمركية المضادة. حيث يرى ترمب أن الرسوم الجمركية أداة فعالة لإعادة إحياء الصناعة الأمريكية. فهو يحمل شعاراً " إما التصنيع في أمريكا أو دفع الثمن".
في حقيقة الأمر حرب التجارة هذه ليست مجرد تبادل للتهديدات أو السياسات التجارية مثل الرسوم الجمركية والتعريفات، بل هي أيضاً صراع على النفوذ الاقتصادي والتفوق التجاري في الساحة العالمية. هذه الحروب التجارية لن تؤثر فقط في تدفق التجارة بين الدول المعنية، بل قد تلقي بظلالها على الاستثمار الأجنبي المباشر. حيث أصبح المستثمرون يشعرون بالقلق من احتمال فرض رسوم إضافية أو قيود على الاستثمارات في بعض الدول.
مفهوم حرب التجارة الدولية
تشير حرب التجارة الدولية إلى المنافسة الاقتصادية الحادة بين الدول الكبرى أو الكتل الاقتصادية الكبرى من خلال السياسات التجارية الحمائية. وتتمثل هذه السياسات في فرض قيود جمركية مثل الرسوم الجمركية، أو الحصص التجارية، أو الحواجز التنظيمية على السلع والخدمات القادمة من دول أخرى، في محاولة لتقليل
العجز التجاري وحماية الصناعات المحلية أو محاولة لإجبار الشركات متعددة الجنسية للاستثمار المباشر داخل الدول التي تفرض هذه القيود. أبرز مثال على حرب التجارة الحديثة هو النزاع التجاري الحالي بين كلا من الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأخرى مثل كندا، والمكسيك، والصين. وفي الحقيقة هذا الصراع ليس بجديد. فقد بدأ في عام 2018م عندما فرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال ولايته الأولى رسومًا جمركية على البضائع الصينية. ورد الصين بالمثل على هذه الرسوم، مما أدى إلى تصعيد النزاع التجاري بين أكبر اقتصادين في العالم.
حروب التجارة والاستثمارات الأجنبية المباشرة
تمثل حروب التجارة تحدياً كبيراً للشركات متعددة الجنسية التي تعتمد على التجارة الدولية كوسيلة للوصول إلى الأسواق العالمية بحيث يسمح لها بالنمو والتوسع. في سياق هذه الحروب، تتغير قواعد اللعبة الاقتصادية، مما يؤدي إلى تحديات كبيرة فيما يتعلق بقرارات الاستثمار الأجنبي المباشر واختيار مواقع الإنتاج. فهي تأتي بتكلفة كبيرة على الدول المشاركة، سواء كانت هذه التكلفة مالية مباشرة أو تأثيرات غير مباشرة. تشمل هذه التكاليف في:
1. زيادة تكاليف الإنتاج. تؤدي الرسوم الجمركية التي تفرضها الدول المتحاربة إلى زيادة تكاليف الإنتاج للسلع المستوردة. هذا يعني أن الشركات التي تعتمد على الاستيراد من البلدان المستهدفة قد تجد نفسها أمام زيادة كبيرة في الأسعار، مما يقلل من الهامش الربحي ويؤثر سلباً على القدرة التنافسية للمنتجات في الأسواق العالمية. على سبيل المثال، فرضت الولايات المتحدة الأمريكية رسوماً جمركية على المنتجات الصينية في عام 2018، مما أثر على الشركات الأمريكية التي تعتمد على استيراد المكونات (المواد الخام) الصينية. ايضاً مع دخول الرسوم الجمركية الأمريكية على جميع واردات السيارات وقطع غيار السيارات (25%) جيز التنفيذ في الثاني من أبريل، سترتفع اسعار السيارات في الأسواق الأمريكية
2. إعادة تشكيل سلاسل الإمداد العالمية. أدت حروب التجارة إلى إعادة ترتيب سلاسل الإمداد العالمية بشكل جذري. فالشركات التي كانت تعتمد على الاستيراد من الأسواق المتأثرة بالحروب التجارية ستبداء في البحث عن أسواق بديلة لتقليل التكاليف المرتبطة بالرسوم الجمركية. فعلى سبيل المثال، مع فرض الرسوم الجمركية على السلعة المستوردة من الصين في عام 2018م استفادت بعض الدول مثل المكسيك وفيتنام من سياسة الاستثمار الخارجي "Offshoring". فبدلاً من تصدير السلع الصينية إلى السوق الأمريكي مباشرة، قامت بعض الشركات الصينية بنقل بعض خطوط إنتاجها للمكسيك (Alianza Industrial Park) وذلك
بهدف تجاوز القيود الجمركية الأمريكية المفروضة على السلع الصينية. مما أدى إلى زيادة تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر الصيني للمكسيك (الأن هذه الشركات في ورطة).
3. عدم اليقين السياسي والاقتصادي. حروب التجارة تخلق بيئة من عدم اليقين الاقتصادي والسياسي على الصعيدين المحلي والدولي. الشركات تتردد في اتخاذ قرارات استثمارية كبيرة في هذه البيئة بسبب الضبابية المتعلقة بتوقعات أسعار المواد الخام المستوردة أو السياسة الحكومية. إذا كانت الشركات غير متأكدة من استقرار الأسواق أو التوقعات الاقتصادية في بيئة الحرب التجارية، فإنها قد تختار تأجيل أو تقليص استثماراتها الأجنبية. على سبيل المثال، قد تتجنب الشركات الأمريكية أو الأوروبية الاستثمار في الصين أو دول أخرى متأثرة بحروب التجارة خوفًا من تغييرات مفاجئة في السياسات الاقتصادية التي قد تؤثر على عوائد استثماراتهم. قد يؤدي هذا إلى تراجع تدفق الاستثمارات في أسواق سريعة النمو مثل آسيا أو أمريكا اللاتينية.
تأثير حرب التجارة على تدفقات الاستثمار في الأسواق الناشئة
الحروب التجارية تؤثر بشكل كبير على الاقتصادات الناشئة. فعندما تقوم دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية بفرض رسوم جمركية على السلع الصينية، فإن الدول النامية التي تعتمد على الصادرات إلى الصين قد تتأثر بشكل كبير. كما أن هذه البلدان قد تعاني من انخفاض الطلب على صادراتها بسبب القيود التجارية والزيادة في التكاليف المرتبطة بالرسوم الجمركية. لكن من ناحية أخرى، يمكن أن توفر الحروب التجارية فرصًا لبعض الدول الناشئة التي قد تستفيد من تدفقات استثمارية جديدة بسبب استراتيجيات تحويل سلاسل الإمداد.
الآثار المستقبلية لحروب التجارة على الاستثمار الأجنبي المباشر
1. إعادة هيكلة سلاسل الإمداد العالمية. من المتوقع أن تؤدي حروب التجارة الحالية إلى إعادة هيكلة واسعة لسلاسل الإمداد العالمية. الاستثمار الأجنبي المباشر سيكون محوريًا في هذا التحول، حيث قد تقوم الشركات بتوسيع وجودها في أسواق جديدة أو تقليص استثماراتها في بعض الأسواق نتيجة للتقلبات السياسية للدول. كما ذكرنا في أحد المقالات السابقة بأن القيود الجمركية قد تدفع بعض الشركات إلى البحث عن أسواق بديلة أو مواقع استثمارية أخرى ذات بيئة أكثر مرونة في ما يتعلق بالانفتاح الاقتصادي. إذا كانت الدولة المستهدفة تفرض قيودًا جمركية شديدة، قد يقرر المستثمرون نقل استثماراتهم إلى دول أخرى تتمتع ببيئة تجارية أكثر انفتاحًا. وفي بعض الحالات، قد تؤدي القيود الجمركية إلى تشجيع المستثمرين الأجانب على إنشاء مصانع أو مرافق إنتاج داخل البلد المستهدف، بدلاً من مجرد تصدير المنتجات من بلدانهم الأصلية. في هذه
الحالة يكون الهدف من الاستثمار الأجنبي المباشر "تخطي الحواجز الجمركية" (Tariff-Jumping FDI). حيث يسعى المستثمرون الأجانب إلى تقليل تأثير القيود الجمركية من خلال توطين الإنتاج.
2. فرص جديدة للدول النامية. الحروب التجارية العالمية تقدم تحديات وفرصاً في الوقت نفسه للدول النامية. من ناحية، قد تؤدي إلى تعقيد بيئة الأعمال وزيادة التكاليف، ومن ناحية أخرى، يمكن أن تفتح أبواباً جديدة للاستثمار إذا تم استغلال الفرص بشكل استراتيجي. حيث يمكن أن تصبح وجهة مفضلة للاستثمارات الأجنبية المباشرة نتيجة لتحول سلاسل التوريد أو محاولة الشركات متعددة الجنسية إيجاد بدائل لتقليل تبعيتها للأسواق الكبيرة المتنازعة. على سبيل المثال، إذا كانت الشركات تبحث عن مصادر جديدة للإنتاج خارج نطاق الصين بسبب الرسوم الجمركية، فقد تتجه هذه الشركات للاستثمار في الدول النامية "الصديقة" ذات التكلفة المنخفضة من خلال استراتجية الاستثمار القريب “nearshoring”.
المملكة والفرص المتاحة
الحروب التجارية العالمية الحالية توفر للمملكة العربية السعودية مجموعة من الفرص الاقتصادية، خاصة في ما يتعلق بجذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وتوسيع دورها كمركز إقليمي في سلاسل التوريد والذي يعزز مكانتها الاقتصادية الإقليمية والعالمية.
· جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة. في ظل التوترات التجارية بين القوى الكبرى، قد يبحث العديد من الشركات العالمية عن بدائل لإنتاج سلع معينة خارج الدول المتحاربة، خاصة في القطاعات التي تأثرت بشكل كبير بسبب الرسوم الجمركية العالية. المملكة قد تكون في موقع جيد للاستفادة من هذا التحول، خاصة في قطاعات مثل التكنولوجيا، الطاقة المتجددة، وغيرها من القطاعات التي تمتلك فيها المملكة مزايا تنافسية. فمع البيئة الاقتصادية المستقرة، والسياسات التجارية المرنة، والحوافز الحكومية التي تقدمها المملكة للمستثمرين الأجانب، قد تجعل المملكة وجهة أفضل في ظل الحروب التجارية.
· تقوية دور المملكة كمركز إقليمي. الحروب التجارية قد تسهم في تعزيز مكانة المملكة كمركز إقليمي للأنشطة التجارية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. فالمملكة تمتلك شبكة واسعة من الاتفاقيات التجارية والاستثمار الثنائي وتجنب الازدواج الضريبي مع العديد من الدول، ولديها القدرة على أن تكون بوابة للأسواق الإقليمية. هذا يضعها في موقع استراتيجي يسمح لها بتوسيع دورها في سلاسل التوريد العالمية.
خاص_الفابيتا