مفارقة جيفونز

17/02/2025 0
د. عبدالله الردادي

في الأسابيع الأخيرة، أصبحت مفارقة «جيفونز» موضوعاً ساخناً، ومصطلحاً دارجاً في النقاشات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، خصوصاً بعد ظهور نموذج الذكاء الاصطناعي الجديد الذي طورته الشركة الصينية (DeepSeek) بتكلفة أقل بكثير مقارنة بتكاليف النماذج التي تنتجها شركات مثل «أوبن إي آي»، والتي نتج عنه انخفاض كبير في أسعار أسهم شركات التقنية الأميركية وصل إلى عشرات المليارات من الدولارات، وفيما زعزع هذا الحدث النماذج الحالية لأعمال هذه الشركات، اندفع الرئيس التنفيذي لشركة «مايكروسوفت» ساتيا ناديلا إلى استدعاء «جيفونز» مؤشراً على أن انخفاض التكلفة سيؤدي إلى زيادة استخدام الذكاء الاصطناعي بدلاً من تقليصه، فما هي مفارقة «جيفونز»، وإلى أي مدى تنطبق على ما حدث لشركات الذكاء الاصطناعي؟

مفارقة «جيفونز»، التي صاغها الاقتصادي البريطاني ويليام ستانلي جيفونز في القرن التاسع عشر، تشير إلى أنه عندما تصبح التقنية أكثر كفاءةً في استخدام الموارد، فإن الاستهلاك الكلي لتلك الموارد يزداد بدلاً من أن ينخفض، وفي كتابه «مسألة الفحم»، أوضح جيفونز أن تحسين كفاءة المحركات البخارية في بريطانيا لم يؤدِ إلى تقليل استهلاك الفحم، بل زاد من الطلب عليه. فعندما تصبح المحركات أكثر كفاءة، تنخفض تكاليف الإنتاج، مما يؤدي إلى استخدام أوسع لهذه التقنية في قطاعات جديدة، وهو ما يرفع الطلب على الفحم بدلاً من تقليصه.

وقبل عدة عقود، ظهر هذا النمط مجدداً مع انتشار أجهزة الكمبيوتر الشخصية، ففي بداياتها، كانت أجهزة الكمبيوتر ضخمة ومكلفة ولا يمكن للفرد العادي امتلاكها، لكن مع تطور المعالجات وزيادة كفاءتها، أصبحت أجهزة الكمبيوتر أصغر حجماً وأكثر قدرة وأقل تكلفة، مما أدى إلى انتشارها الواسع، لم تتقلص سوق الحوسبة، كما توقع البعض، بل ازدهرت وأصبح الكمبيوتر عنصراً أساسياً في كل منزل ومكتب، وأدى هذا إلى ابتكار تطبيقات جديدة زادت من الاعتماد على التقنية.

وفي سياق الذكاء الاصطناعي، يجادل ناديلا بأن انخفاض تكلفة الذكاء الاصطناعي سيؤدي إلى زيادة استخدامه، مما سيخلق فرصاً جديدة لنمو الصناعة بدلاً من تقليصها، ووفقًا لناديلا، ستعمل التقنية منخفضة التكلفة على تحفيز الطلب بشكل كبير، مما يعني أن الشركات الكبرى مثل «مايكروسوفت» و«أوبن إي آي» قد لا تتأثر سلباً بانخفاض الأسعار، بل قد تستفيد من سوق أكبر وأكثر ديناميكية، وبالطبع فإن كلمات ناديلا لا تخلو من انحياز كونه صاحب مصلحة في هذا الأمر.

وهو ما يطرح السؤال: هل تنطبق مفارقة «جيفونز» فعلاً على الذكاء الاصطناعي؟ يرى بعض الاقتصاديين أن المفارقة قد لا تكون قابلة للتطبيق في هذا السياق بالطريقة نفسها التي كانت عليها في أسواق الفحم أو الحوسبة، السبب في ذلك هو أن استهلاك الموارد في الذكاء الاصطناعي لا يعتمد فقط على تكلفة التشغيل، بل على عوامل أخرى مثل البنية التحتية، توفر الشرائح المتقدمة، ومتطلبات الطاقة الضخمة لمراكز البيانات، حتى لو أصبحت نماذج الذكاء الاصطناعي أكثر كفاءة وأقل تكلفة، فقد لا يؤدي ذلك بالضرورة إلى زيادة استخدامها إلى حد يفوق التوفير المحقق، علاوة على ذلك، في حين أن جيفونز كان يتحدث عن موارد محدودة مثل الفحم، فإن الذكاء الاصطناعي ليس مقيداً بالقيود الفيزيائية نفسها، صحيح أن تشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي يتطلب طاقة كبيرة، لكن ليس من الواضح بعد ما إذا كان التحسن في الكفاءة سيؤدي إلى تضاعف استهلاك الطاقة، أو أن التطبيقات ستتوسع بشكل يجعل المفارقة تتحقق فعلياً.

ولكن بغض النظر عن صحة تطبيق مفارقة «جيفونز» على الذكاء الاصطناعي، فإن انخفاض تكلفة هذه التقنية يحمل آثاراً إيجابية هائلة، فستصبح أدوات الذكاء الاصطناعي متاحةً لمزيد من الشركات الصغيرة والمبتكرين، مما سيسرّع من تطور التطبيقات في مختلف المجالات، ومع تحول النماذج الأساسية إلى سلع متاحة، سيتم توجيه المزيد من الاستثمارات نحو التطبيقات العملية بدلاً من تكاليف التطوير العالية، هذا يعني أن المستفيدين النهائيين لن يكونوا فقط الشركات الكبرى، بل سيستفيد أيضاً رواد الأعمال والباحثون وحتى الأفراد العاديون الذين سيحصلون على أدوات قوية بأسعار منخفضة.

وفي نهاية المطاف، سواء أكانت مفارقة «جيفونز» تنطبق حرفياً على الذكاء الاصطناعي أم لا، فإن الاتجاه العام يشير إلى أن انخفاض التكلفة سيسرّع من انتشار التقنية ويغير المشهد الاقتصادي بشكل لا يمكن التنبؤ به بالكامل، وقد تجد الشركات الكبرى طرقاً جديدة للاستفادة من الطلب المتزايد، ولكن الأهم من ذلك هو أن العالم سيشهد تحولاً كبيراً في كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي وتأثيره على مختلف القطاعات.

 

 

نقلا عن الشرق الأوسط