قراءة استراتيجية في الحروب التجارية للولايات المتحدة الأمريكية تاريخ ودروس مستفادة

16/01/2025 0
البدر فودة

مقدمة:

نسمع من وقت لآخر عن خبر جديد حول فرض، او العزم على فرض، رسوم جمركية محددة على سلع او دول محددة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية. ونقرأ مقالات الكتاب والمفكرين الاقتصاديين حول الموضوع. من ادارة الرئيس ترامب سابقاً، إلى ادارة الرئيس بايدن، ثم إلى الرئيس ترامب مرة أخرى، فما هي قصة الحرب التجارية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية. دفعني الفضول للبحث عن اجابات، بعيداً عن تبسيط الموضوع، والذي تناوله أكثر من اقتصادي. تحدث بعض كتاب الاقتصاد عن ضرر سياسة رفع الرسوم الجمركية، وما يمكن ان تتسبب فيه من ارتفاع في الاسعار، وانخفاض كفاءة الانتاج المحلي، وشحن المناخ التجاري العالمي برد الفعل الانتقامي، والذي قد تقوم به بعض الدول رداً على السياسة التجارية الامريكية تجاهها. وهذا المنظور يعتبر في رأيي نقاش لجزء من الأثر، لكنه لا يناقش الأسباب، ولا نقاط قوة وضعف الأطراف، ولا العمق التاريخي الاستراتيجي لهذه السياسة الأمريكية. كما أنه يصور الأمر وكأن الرئيس ابتكر السياسة واجراءاتها بين عشية وضحاها. ليس من المنطق أن يقول بعض الكتاب بأن الولايات المتحدة الأمريكية قد تطبق سياسة تجارية غير مدروسة. نحن هنا نتحدث عن مليارات الدولارات من التبادل التجاري مع دول وتكتلات اقتصادية مختلفة، وعن اجهزة فدرالية ضخمة ومستشارين عالميين وسياسات تطبقها امريكا منذ ١٩٥٠م.

الاهداف من السياسة التجارية الأمريكية:

بحسب قراءتي، إن ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية اليوم يعتبر تكرار لسياسات تجارية مجربة، وعميقة، ولها جهاز ونظام ناضج، ويشبه النمط الى حد ما. واثبتت هذه السياسة فعاليتها تاريخياً كما سنوضح في سياق هذا المقال. كما أن الهدف من هذه السياسة، بحسب قراءتي للمشهد، هو تنفيذ استراتيجية أشمل تهدف إلى تأمين المصالح الاقتصادية الأمريكية في ظل توازن عالمي متغير وذلك من خلال تكتيك لصالح امريكا يهدف إلى:

١- الضغط لدفع الطرف الآخر للتفاوض حول تحسين شروط التجارة بين البلدين وتقديم تنازلات.

٢- خفض العجز في الميزان التجاري.

٣- تعزيز الانتاج والاستثمار المحلي في الصناعة (تعزيز سياسة امريكا اولاً).

٤- حماية الصناعات الاستراتيجية (تعزيز الامن القومي).

٥- محاولة ابطاء صعود اقتصاد منافس.

٦- الدفع بتنويع مصادر الاستيراد والشراكات الدولية.

٧- توجيه رسائل اقتصادية سياسية.

بعض الحروب التجارية الأمريكية:

الحرب التجارية مع أوروبا:

منذ ١٩٥٠م، وربما قبل ذلك، خاضت امريكا العديد من الحروب التجارية مع دول وتكتلات اقتصادية مختلفة، وفي فترات زمنية متفرقة، وجنت ثمارها من جهة، ودروس مستفادة من جهة أخرى. خاضت امريكا حرباً تجارية مع الاتحاد الاوروبي كان أولها في خمسينيات القرن الماضي إذ كان الخلاف حول الدعم الاوروبي الذي يتم تقديمه للمزارعين، والدعم المقدم لشركة ايرباص مقابل شركة بوينج. طبقت الولايات المتحدة رسوماً على المنتجات الزراعية الواردة من الاتحاد الاوروبي، كما طبقت ذلك على الطائرات وأجزاءها. انتهت الحرب بالمفاوضات والتي افضت إلى توقيع اتفاقية على المدى الطويل بخصوص صناعة الطيران، غير أن الحرب المتقطعة حول المنتجات الزراعية لا تزال موجودة. وبمقارنة نتائج السياسة التجارية الأمريكية تجاه الاتحاد الاوروبي بعد مضي عشرات الاعوام، بحسب البيانات الرسمية الصادرة عن المكتب التجاري الامريكي، فقد بلغت صادرات السلع الأمريكية إلى الاتحاد الأوروبي في عام ٢٠٢٢ مليار دولار تقريباً، بزيادة بحوالي ٢٩٪؜ (٨٧,٥ مليار دولار) عن عام ٢٠٢١ وزيادة ٦٦٪؜ عن عام ٢٠١٢م. وبلغ إجمالي واردات السلع الأمريكية من الاتحاد الأوروبي ٥٥٣، مليار دولار تقريبا في عام ٢٠٢٢م، بزيادة ١٣٪؜ تقريبا (٦٣ مليار دولار) عن عام ٢٠٢١م. تمثل الصادرات الأمريكية إلى الاتحاد الأوروبي ١٧٪؜ من إجمالي الصادرات الأمريكية في عام ٢٠٢٢. وبلغ العجز التجاري للسلع الأمريكية مع الاتحاد الأوروبي ٢٠٢,٥ مليار دولار في عام ٢٠٢٢م، بانخفاض ٧,٣٪؜ (حوالي ١٦ مليار دولار) عن عام ٢٠٢١م. وبالعودة للاعوام من ٢٠١٦م وحتى عام ٢٠١٨م، ثم الى عام ٢٠٢٢م، فقد تباطأ العجز في نسبة النمو السنوي المركب بين امريكا والاتحاد الاوروبي بنسبة ٦,٣٪؜ وهو ما قد يشير إلى نجاح السياسة التجارية الأمريكية تجاه التجارة مع أوروبا.

الحرب التجارية مع اليابان:

إضافة إلى ما سبق، خاضت امريكا حرباً تجارية مع اليابان في الثمانينات والتسعينيات من القرن الماضي إذ تسبب العجز في الميزان التجاري لصالح اليابان باندلاع هذه الحرب. كانت الحرب التجارية ضد السيارات والاليكترونيات اليابانية حيث فرضت امريكا قيوداً ورسوماً جمركية ضد وارداتها من اليابان. انتهت الحرب باتفاقية "قيود التصدير الطوعية"، حيث كانت تهدف الاتفاقية إلى اعادة التوازن التجاري بين البلدين. وعززت امريكا بعد ذلك من صناعتها في الاليكترونيات والتقنية الدقيقة والصناعات الابتكارية.

من الجدير بالذكر بأنه تم ابرام اتفاقية باسم "اتفاقية بلازا" في علم ١٩٨٥م بين كل من الولايات المتحدة الامريكية، واليابان، والمانيا (الغربية آنذاك)، وفرنسا، والمملكة المتحدة. كانت الاتفاقية تهدف إلى رفع تنافسية الصادرات الامريكية، من خلال خفض قيمة العملة، غير أن الاتفاقية لم تسهم في خفض العجز في الميزان التجاري بين الولايات المتحدة الامريكية واليابان، إلى أنها ساهمت في خفض العجز مع بقية دول الاتفاقية مدعومة بزيادة الطلب على المنتجات الامريكية.

الحرب التجارية مع كندا والمكسيك:

كما خاضت امريكا حرباً تجارية مع كندا والمكسيك بين عامي ٢٠١٧ و٢٠١٩ للضغط على الدولتين لاعادة التفاوض بشأن اتفاقية التجارة الحرة لامريكا الشمالية (نافتا)، وذلك لاعادة التوازن للميزان التجاري، وقواعد العمل، والصناعة، والملكية الفكرية، وقواعد المنشأ، وظروف ممارسة العمل بين امريكا وكندا والمكسيك. اسفر الضغط وفرض الرسوم الجمركية على الحديد والصلب إلى توقيع اتفاقية جديدة تتناسب مع رغبة امريكا حيث تضمنت الاتفاقية الجديدة شروطاً اكثر صرامة في قواعد المنشأ، وضمان بيئة عمل عادلة للعاملين، وتعزيز المعايير البيئية للتصنيع بما يضمن أن يتم إنتاج السلع والخدمات المتاحة في ظل ظروف عمل عادلة. ومن الجدير بالذكر بأن التكلفة ترتفع على المكسيك جراء رفع معايير الامتثال لمتطلبات الاتفاقية لتلبية شروطها. كما تتمتع الاتفاقية بقواعد صارمة للرقابة على الدول من حيث الامتثال والتنفيذ. هذا وصرحت كندا قبل عدة ايام بأنها على استعداد لشراء المزيد من السلع الامريكية بما في ذلك اسطول غواصات حربية، علماً بأن ٧٠٪؜ من المشتريات العسكرية الكندية تأتي من الولايات المتحدة الامريكية. كما اشارت كندا بأنها تشغل ٨ مليون امريكي حيث تشتري من ٣٦ ولاية امريكية. أما عن تهديدات الرئيس ترامب حول رفع الرسوم الجمركية بنسبة ٢٥٪؜ على واردات امريكا من كندا، او تحويل كندا للولاية ٥١ لامريكا، فقد اشار السفير الكندي في واشنطن بأن هذه هي طريقة الرئيس ترامب في التفاوض للدفع بكندا لشراء المزيد والمزيد من السلع الامريكية.

الحرب التجارية مع المانيا:

هذا وهددت ادارة ترامب السابقة بفرض رسوم على واردات امريكا من السيارات الالمانية إلا أن المانيا تجاوبت سريعاً عبر الاتحاد الاوروبي بالتفاوض مما نزع فتيل الأزمة.

الحرب التجارية مع الصين:

أما الصين، فقد بدأت الحرب التجارية معها في عام ٢٠١٨ وحتى عام ٢٠٢٠ (المرحلة الأولى) نظراً لعدة عوامل منها السياسي ومنها الاقتصادي. أما الاقتصادي فهو العجز الكبير في الميزان التجاري لصالح الصين، والاتهامات بشأن سرقات الملكية الفكرية، والدعم المقدم من الحكومة للشركات الصينية، وفرض قيود أو منع الشركات الامريكية من النفاذ للسوق الصيني. وطورت امريكا من سياستها التجارية ضد الصين حيث أدخلت عليها حظراً في تصدير المنتجات الحساسة مثل أشباه الموصلات، وقيوداً على نقل التقنية، وعقوبات على شركات مثل هاواوي. أدت هذه السياسة، بجانب فرض الرسوم الجمركية - السياسة التقليدية لحروب أمريكا التجارية - إلى الاضرار بمئات المليارات من صادرات الصين لأمريكا. انتهت هذه الحرب بتوقيع اتفاقية بين البلدين بعنوان "المرحلة الأولى" والتي شكلت هدنه غير أن الصين لم تلتزم بها تماماً.

تتمحور اتفاقية "المرحلة الاولى" بين امريكا والصين حول توزيع التزامات على الطرفين حيث تعهدت الصين بشراء ما قيمته ٢٠٠ مليار دولار أمريكي من المنتجات الأمريكية على مدى عامين وهما ٢٠٢٠ و٢٠٢١. تشمل المشتريات منتجات زراعية مثل فول الصويا واللحوم، ومنتجات صناعية مثل الطائرات والسيارات، ومنتجات طاقة مثل النفط والغاز، وخدمات مالية وتقنية. كما تعهدت الصين بموجب هذا الاتفاقية بفتح الاسواق امام الشركات المالية الامريكية، وازالة القيود عن الصادرات الامريكية للصين. كما تعهدت الصين باطلاق قوانين جديدة تحصن الملكية الفكرية وتقلل من سرقات التقنية. وبالمقابل، وافقت أمريكا على عدم فرض رسوم جمركية جديدة على الصين حيث كانت هذه الرسوم مجدولة للتطبيق في أواخر عام ٢٠١٩م. كما خفضت امريكا الرسوم الجمركية على بعض وارداتها من الصين بنسبة من ١٥٪؜ إلى ٧,٥٪؜ حيث بلغت قيمتها ١٢٠ مليار دولار. بقيت سياسة الصين في دعم الشركات، ونقل التقنية بالاجبار محل نزاع إذ لم يتم حل هذه القضايا، وأبقت امريكا رسوماً جمركية على واردات من الصين بقيمة ٣٦٠ مليار دولار. لم تلتزم الصين بالشق الخاص بها من الاتفاقية اذ بلغ مستوى الالتزام الخاص بالمشتريات في حدود - متوسط - ٥٧٪؜ بحسب تقارير مستقلة. وقد كان النقص أكبر في التزامات الصين تجاه شراء النفط والغاز الأمريكي إذ لم تصل للمستهدفات التي حددتها الاتفاقية. أما فيما يخص المنتجات الزراعية، فقد زادت الصين من مشترياتها من فول الصويا لكنها لم تحقق المستهدفات حسب الاتفاقية. وبالارقام، فقد انخفض النمو المركب للعجز السنوي في الميزان التجاري بين امريكا والصين بحوالي ١٨,٦٪؜ بمقارنة عامين قبل التطبيق وبعد التطبيق.

التوازن بين الاهداف والاضرار الجانبية للسياسة التجارية الامريكية:

وبالتأكيد، تعي أمريكا تماماً بأن هذه السياسات تحدث اضطرابات في سلاسل الإمداد، وتؤثر على الأسعار، وتطال العلاقات السياسية، إلى أنه يُعتقد بأنها آثار مؤقتة في ظل التوجه نحو أهداف استراتيجية امريكية أشمل وبعيدة المدى وتتناسب مع ديناميكية الاقتصاد العالمي. ولا يمكن ان نتوقع ان تقف الولايات المتحدة الأمريكية مكتوفة الأيدي وقد حققت اعلى عجز في ميزانها التجاري في تاريخها وذلك في عام ٢٠٢٢م حيث بلغ العجز التجاري حوالي تريليون دولار.

قراءة في التكتيك والنتائج:

وبقراءة نتائج السياسات التجارية الأمريكية تجاه الدول والتكتلات الاقتصادية فإن الآثار السلبية المحتملة تكاد تكون منخفضة حيث أنها إذا لم تكن ذات فائدة، فإنها لا تحقق خسائر جسيمة يصعب اصلاحها. وتركز امريكا على قوتها الشرائية العالية للسلع النهائية وحجم الاستهلاك الكبير، اذ تستخدم نقاط قوتها كسلاح تجاري في وجه تنافسية الواردات بشكل عام، والغير عادلة على وجه الخصوص. بالاضافة إلى ما ذكر، فإن امريكا تزمن اجراءاتها المنبثقة عن سياساتها التجارية لمدة عامين قادمين على الأقل، مما يضغط على الطرف الآخر للتحرك سريعاً لتلافي ضرر السياسة الجديدة. كما أنها تضعف موقف الطرف الآخر بشكل كبير حيث يصبح في موقف دفاع يرغب معه في تقديم تنازلات في مقابل عدم تطبيق سياسة غير موجودة في الواقع ابتداءً، ومخالفة دولياً في بعض الأوقات. وبطبيعة الحال، وحتى يتم تحضير الدولة المستهدفة، تسخر امريكا آلتها الاعلامية العملاقة لبث الذعر في الاوساط التجارية في الدولة المستهدفة لتعزيز الضغوط عليها وتحريك السياسيين وقطاع الأعمال لممارسة الضغط الداخلي على الحكومة ودفعها لتلبية المصالح الأمريكية. وقد تكون ساهمت سياسات امريكا التجارية بانخفاض العجز في الميزان التجاري مع العالم بواقع ١٨٪؜ بين عام ٢٠٢٢م وعام ٢٠٢٣م إذ انخفض العجز بواقع ١٧١ مليار دولار للفترة.

مرئيات:

يتضح لي بأن للأسواق المستهلكة للمنتجات النهائية، والمصدرة لسلع المواد الخام أو بعض السلع الوسيطة قوة مضاعفة في قدرة الدولة على فرض سياساتها التجارية بما يتناسب مع استراتيجياتها التنموية، إذ تجد سلع المواد الخام والأساسية وبعض السلع الوسيطة طريقها للأسواق العالمية، بينما تتضرر واردات السلع النهائية جراء أي اجراء قد تفرضه الدولة. كما أن مبدأ المعاملة بالمثل كإجراء انتقامي قد لا يمكن أو يصعب تطبيقه، إذ أن الدولة المتضررة تحتاج إلى سلع المواد الخام الأساسية أو بعض السلع الأساسية الوسيطة من الدولة التي مارست اجراءات متشددة في سياساتها تجارية. وأن أي اجراء انتقامي تطبقه الدولة المتضررة على الدولة التي تشددت في سياساتها التجارية يعني تضرر صناعتها المحلية بارتفاع التكاليف واضطراب سلاسل الامداد. ولهذا نشهد عدم قدرة بعض الدول التي تصدر سلع نهائية على اتخاذ اجراءات مضادة - مكافئة - مهما بلغ حجم الاجراءات التي اتخذتها الدولة المتشددة والتي تصدر سلع مواد خام اساسية أو سلع وسيطة أساسية.

من وجهة نظري، فإن الولايات المتحدة الأمريكية تمارس فناً من فنون صناعة السياسات التجارية تجاه الدول والتكتلات الاقتصادية المختلفة. وهي فيما تقوم به ترسم لكل دولة وتكتل سياسة تجارية مستقلة مبنية على مصالحها معها. كما تستفيد أمريكا من تاريخ طويل من السياسات التجارية. وبناء على الدروس المستفادة، فهي تطور إجراءات هذه السياسات بشكل مستمر يجعلها في مقدمة صناع السياسات التجارية عالمياً. ولا يوجد خط فاصل قاطع نستطيع معه أن نجزم بتداعيات هذه السياسات على العلاقات السياسية والدبلوماسية مع الدول إذ أن ذلك يعتمد على عناصر أخرى للعلاقة مع الاطراف محل النزاع. واعتقد بأن الولايات المتحدة الأمريكية أكثر وضوحاً من غيرها في التعبير عن سياستها وأهدافها التجارية دون اللجوء إلى ذرائع يقصد بها تحقيق ذات الأهداف لكن بغطاء آخر.

إن أصبت فمن الله، وان اخطأت فمن نفسي

 

 

خاص_الفابيتا