يعدّ التطوّر التشريعي من أهم الظواهر الحضارية التي تحظى بها البيئة القانونية في المملكة؛ حيث إن التطوّر التشريعي أحد أبرز الأركان الأساسية التي ترتكز عليها برامج رؤية المملكة 2030، فوجود بيئة تشريعية متجددة، وفق سياسات مهنية متقدمة، وفي ضوء أفضل الممارسات الدولية؛ يحقق مستهدفات الرؤية، ويساهم في استدامتها، وإن من أهم الوسائل المساهمة في تطوّر البيئة التشريعية، وجود استقرار في الفلسفة التشريعية؛ حيث إن وجود هرميّة دستورية للتشريعات، يساعد على إيجاد الحلول التشريعية في جميع القطاعات، ويحقق استقرارًا في الفهم القانوني والقضائي لها، فضلًا عن مساهمته في تطوّر السلطة التنفيذية، وتحقيقها للغاية من وجود التشريعات في قطاعات الدولة، ولا شك أن مرحلة التطوّر التشريعي في أي بلد، غالبًا ما تظهر فيها معالم تَشَكُّل الفلسفة التشريعية لها، والتي تحتاج مزيدًا من البحث، والتأمّل، والتعديل؛ للوصول إلى سياسة تشريعية تنطلق من فلسفة واضحة ومستقرّة متوائمة مع دستور الدولة، ونظامها العام.
ومن أبرز الأدوات التشريعية التي ظهرت في المملكة مؤخرًا، الترتيبات التنظيمية "Regulatory Arrangements" التي تعدّ أداةً لتنظيم الإطار القانوني للجهات الحكومية المستحدثة، والذي يمكن تشبيهها وتقريب ممارستها لما يسمّى في التشريعات المقارنة بالإنجليزية: "Provisional Orders"، وبالفرنسية "Réglementation Provisoire"، (ويمكن ترجمتها باللوائح أو الأوامر التأسيسية المرحلية)، والتي تهدف بشكل مباشر إلى وجود تنظيم تشريعي قادر على استيعاب جهة معينة في أي من قطاعات الدولة، وإمكان فحص هذا الترتيب التنظيمي في مرحلة محددة إلى حين صدور تشريع رسمي بشأنها.
وهو يختلف عن مصطلح "Provisional Regulations"، أو "Interim Orders"، والذي يشار إليه بالتنظيمات أو الأوامر المؤقتة، والتي يقصد بها، الأوامر والقوانين الطارئة لمواجهة ظروف استثنائية تنتهي بانتهاء تلك الظروف.
ففي الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، غالبا ما تسمح التشريعات – باختلافات يسيرة بين التجربتين - إلى إصدار "Provisional Orders" التي تُسنّ من قبل الجهات المختصة؛ لتقديم التوجيه الفوري لقطاعات محددة، إلى حين تمرير تشريع رسمي لذلك القطاع.
وكذلك الأمر في فرنسا، حيث تصدر ما يعرف بـ"Réglementation Provisoire"، التي تسمح التشريعات لها بتنفيذ لوائح مؤقتة وفق أدوات إصدار دستورية؛ لتوفير سلطة مؤقتة للجهات والوكالات الجديدة، إلى حين اتخاذ إجراء تشريعي رسمي بشأنها.
مفهوم المصطلح وظهوره في الأنظمة السعودية
وفي ضوء اطلاعي وتتبعي لمصطلح الترتيبات التنظيمية في البيئة التشريعية في المملكة، يمكن القول بأن أول ظهور لمصطلح "الترتيبات التنظيمية" في المملكة كان في التوجيه الكريم بإنشاء مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، ومجلس الشؤون السياسية والأمنية، وإلغاء عدد من المجالس والهيئات واللجان العليا، في الأمر الملكي رقم (أ/69) وتاريخ 09/04/1436هـ، حيث جاء في البند (ثالثًا) منه، ما نصه: "تتولى هيئة الخبراء بمجلس الوزراء – بالاشتراك مع الأجهزة المعنية – مراجعة الأنظمة والتنظيمات والأوامر التي تتأثر بما ورد في البند (أولًا) من أمرنا هذا، ووضع الترتيبات التنظيمية اللازمة لذلك، بما في ذلك تحديد اختصاصات كلا المجلسين".
وصدر الأمر الملكي رقم (أ/70) وتاريخ 09/04/1436هـ بتشكيل المجالس المذكورة؛ مما يعني أن مفهوم (الترتيبات التنظيمية) الواردة في الأمر الملكي السابق، لم يكن إشارة إلى وثيقة تشريعية محددة، أو أداة تنظيمية جديدة، بل
المقصود منها وجود إطار تنظيمي قانوني ينظّم شؤون تلك المجالس، وليس بالضرورة أن تكون بشكل مؤقت إلى حين استقرار العمل بها.
وبعد أقل من عام على صدور الأوامر الملكية السابقة، صدرت "الترتيبات التنظيمية للهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة"، والتي يمكن القول بأنها تعدّ أولى الترتيبات التنظيمية التي صدرت في المملكة، بقرار عن مجلس الوزراء رقم (9)، وتاريخ 13/01/1437هـ، وبعدها أصبحت الجهة المختصة في المملكة تصدر عددًا من الترتيبات التنظيمية للجهات الحكومية الحديثة، حيث بلغت الترتيبات التنظيمية ما يزيد على ثمانين ترتيب تنظيمي حتى تاريخ كتابة هذه المقالة، تمهّد لإصدار تنظيمات خاصة لبرامج وقطاعات وجهات حكومية متعددة.
ونخلص مما سبق، أنه بالنظر إلى النصوص النظامية في المملكة، يمكن لنا أن نقول، أنّ للترتيبات التنظيمية مفهومين مفهوم عام ويقصد به إجراءات لترتيب جهة أو مشروع حكومي معيّن، ومفهوم خاص ويقصد به وثيقة قانونية محددة تنظّم جهة حكومية جديدة إلى حين إصدار تنظيم خاص بها.
مكانة الترتيبات التنظيمية بين التشريعات الأخرى في المملكة
بالنظر إلى الترتيبات التنظيمية باعتبارها إحدى الأدوات التشريعية التي تهدف إلى تنظيم جهات حكومية يصدر بتأسيسها، أوامر، أو مراسيم ملكية، أو قرارات من الجهات المختصة؛ فإنه يمكن القول بأنّ الترتيبات التنظيمية تعدّ من التشريعات الفرعية، أي مماثلة في الترتيب التشريعي الهرمي، للتنظيم، واللوائح التنفيذية، واللوائح التنظيمية، مع اختلاف الغاية منها، وقوة أثرها بين اللوائح الأخرى، فهي مختصة بتنظيم الجهات الحكومية المستحدثة، كما أنها تصدر عن الجهة المختصة وفق الاختصاصات المنوطة لها نظامًا بتنظيم أعمال السلطة التنفيذية، فلا تخضع في إصدارها لإجراءات إصدار الأنظمة، بما في ذلك عرضها على مجلس الشورى، بل تصدر وفق الاختصاصات المنوطة بالجهة المختصة في تنظيم الأجهزة الحكومية (سواءً صدرت بقرار من مجلس الوزراء، أو بأمر ملكي)، وتأخذ قوة الأداة التي صدرت بها.
خصائص الترتيبات التنظيمية
باستقراء الترتيبات التنظيمية الصادرة من عام 1437هـ إلى عام 1446هـ، وتحليلها من حيث الشكل والمضمون، يظهر لنا الآتي:
1. بدأت الترتيبات التنظيمية وأخذت وقتًا للتشكّل بإطار شكلي معيّن، حيث ظهرت ابتداءً بشكل غير موحّد، ثم استقرت في الترتيبات التنظيمية المتأخرة باقترابها بشكل ظاهر جدًا في الشكل والمضمون مع التنظيمات التي تنظّم عمل الجهات الحكومية، وفي الجملة فإن جميع الترتيبات التنظيمية تهدف إلى تنظيم جهات حكومية حديثة، لا سيما تلك التي تأتي للعمل أو الإشراف على قطاع جديد.
2. جميع الترتيبات التنظيمية توصي بإصدار تنظيم للجهة خلال مدة محددة، أو دون تحديد مدة؛ مما يظهر معه تشابه مفهوم الترتيبات التنظيمية بما يعرف في التشريعات المقارنة بـ "Provisional Orders".
3. تصدر الترتيبات التنظيمية لمختلف الأجهزة الحكومية، على اختلاف غاياتها وأغراضها، سواءً أكانت هيئات، أو رئاسات، أو مجالس، أو لجان، أو مراكز، أو برامج وطنية، أو مؤسسات عامة، أو أندية ومعاهد وأكاديميات، أو مكاتب استراتيجية؛ فلا تختص الترتيبات التنظيمية بجهة حكومية دون أخرى، وإنما غرضها التنظيم للجهة بغض النظر عن شكلها القانوني، ولغرض استكمال تنظيمها في فترة محددة.
4. لا يوجد استقرار في أداة إصدار الترتيبات التنظيمية، إلا أنه غالبا ما تصدر الترتيبات التنظيمية بقرار من مجلس الوزراء، إلا في الترتيبات التنظيمية للهيئات الملكية، فهي تصدر بأمر ملكي، عدا الهيئة الملكية لمحافظة العلا فقد صدرت الترتيبات التنظيمية لها بقرار من مجلس الوزراء، وصدر التنظيم بعد ذلك بأمر ملكي، كما أنه قد صدر
ترتيب تنظيمي بأمر ملكي لمركز المناطق الاقتصادية الخاصة بمدينة الرياض، وترتيب تنظيمي بأمر ملكي لهيئة تطوير ينبع وأملج والوجه وضبا، بخلاف هيئات المناطق الأخرى (هيئة تطوير الأحساء، وهيئة تطوير جدة) فقد صدرت ترتيباتها بقرار من مجلس الوزراء.
5. أبرز الاختلافات التي تظهر بين الترتيبات التنظيمية والتنظيمات في الممارسات المتأخرة، هي في الاختصاصات والمهام للجهات الحكومية، أو في تشكيل مجالس الإدارة؛ مما يمكن الاستنتاج منه، أن الغاية من الترتيبات التنظيمية هي فحص الممارسة ودراسة مدى نضجها، والذي ينعكس بالضرورة على التنظيم الذي يهدف لاستقرار التشريعات في تلك الجهات.
متى تحتاج الجهة المختصة في المملكة إلى إصدار ترتيبات تنظيمية؟
تبقى إجابة هذا السؤال غير مستقرّة في ضوء ما جرى عليه العمل، إلا أنه بناءً على ما سبق بيانه، يمكن القول بأن الغاية من وجود هذه الترتيبات هو التمهيد لإصدار تشريع خاص لجهة جديدة، يعطي للجهات المختصة قدرةً على اختبار وتقويم التجربة وإنضاجها؛ لاستقرار التنظيم الذي سيصدر بعد ذلك.
وبالنظر في الترتيبات التنظيمية الصادرة، نجد أن تقدير الحاجة إلى ترتيبات تنظيمية يرجع إلى نظر الجهة المختصة في مجلس الوزراء وفق معايير تحدد مدى الحاجة لها، وقد يكون من ذلك معيار حداثة الجهة، فالجهات الجديدة التي لم تكن ضمن جهات حكومية قائمة، خصوصًا تلك التي تُنشأ في قطاع جديد بالكامل، تكون الحاجة لإصدار ترتيبات تنظيمية لها آكد من غيرها؛ لأن التجربة حديثة وتتطلب مزيد فحص وتقويم. أما الجهات التي سُلخت من وزارات أو هيئات قائمة، فالحاجة تكون أقل لإصدار ترتيبات سابقة على التنظيم.
هل يمكن الاكتفاء بترتيبات تنظيمية دون إصدار تنظيم؟
من خلال استقراء الترتيبات التنظيمية الصادرة من الجهات المختصة، فيظهر أن الغاية من الترتيبات التنظيمية هو التنظيم المرحلي للجهات الحديثة، كما لو كانت كيانات تحت التأسيس، وفي معظم الترتيبات التنظيمية يُنص صراحةً في الترتيبات أو في أداة إصدارها، على وجوب إصدار تنظيم للجهة في مدة محددة في ضوء الترتيبات، ورغم ذلك فقد صدرت بعض الترتيبات التنظيمية دون النص على إصدار تنظيم لتلك الجهة، ومن هنا يظهر السؤال حول إمكان الاكتفاء بالترتيبات التنظيمية، حيث إن هذه المسألة تتطلب بحثًا أكثر للوصول إلى فلسفة تشريعية لهذه الأداة التنظيمية.
ولمحاولة تقريب الفهم، وترتيب الأفكار للمساهمة والمساعدة في الوصول إلى الفلسفة التشريعية لهذه الأداة، قمتُ باستقراء الترتيبات التنظيمية التي لم تنص على إصدار تنظيم لها، وخلصت إلى ما يلي:
1. قد تصدر ترتيبات تنظيمية ويقصد منها (المفهوم العام) للترتيبات التنظيمية كما أوضحنا سابقًا، فلا يقصد منها إصدار وثيقة محددة لتنظيم جهة حديثة بعينها، وإنما ترتيب عام لأحد القطاعات، أو لجهة حكومية تابعة لإحدى الجهات المستقرّة، ومن أمثلة ذلك: الترتيبات التنظيمية لمراكز الوثائق والمحفوظات، والترتيبات التنظيمية والهيكلية المتصلة بمكافحة الفساد المالي والإداري، والترتيبات التنظيمية لأمانة مجلس الشؤون السياسية والأمنية.
2. عدم النص على إصدار تنظيم في فترة محددة لا يعني بالضرورة عدم الحاجة لإصدار تنظيم، ومن الأمثلة على ذلك الترتيبات التنظيمية للهيئة السعودية للبحر الأحمر، التي لم تنص على إصدار تنظيم لها، إلا أن الجهة المختصة أصدرت تنظيمًا لها بعد مدة من إصدار الترتيبات.
3. البرامج الوطنية المؤقتة والتي تهدف إلى تطوير أو تنظيم قطاعات معيّنة، فلا يُنص في الترتيبات التنظيمية لها بإصدار تنظيم؛ لأن البرنامج الوطني ذي الصلة قد يتغيّر، وهذه طبيعة البرامج أو المبادرات في الرؤية، التي يكون
الغرض منها إتاحة الفرصة إلى فكرة جديدة حتى يتم التحقق من نجاحها وكفاءتها، فإما أن يتم إلغاؤها إذا لم تثمر نتائجها أو يتحوّل إلى نمط تنظيمي آخر مثل مركز أو هيئة، والترتيب التنظيمي يكون غرضه في هذه الحالة تنظيم المرحلة القائمة، ومن أمثلة ذلك: الترتيبات التنظيمية للبرنامج الوطني لتنمية قطاع تقنية المعلومات، والبرنامج الوطني للربط الجوي، والبرنامج الوطني للتنمية المجتمعية في المناطق، وبرنامج التنمية الريفية الزراعية المستدامة. ففي بعض الأحيان يأتي النص صراحةً على مدة هذه البرامج، وأحيانًا لا ينص على ذلك؛ لغرض فحص التجربة والنظر في إمكان استمرارها من عدمه.
الخلاصة
يعدّ وجود الترتيبات التنظيمية من علامات التطوّر التشريعي الذي يستجيب للحاجة إلى جهات حكومية منفّذة ومشرفة على القطاعات الناشئة بقدر من الفاعلية والكفاءة، كما تعدّ دراسة هذه الترتيبات من الناحية القانونية من الأهمية بمكان؛ لإنضاج الفلسفة التشريعية لهذه الأداة، واستقرار السياسة التشريعية في المملكة؛ وعليه، يمكن أن نستخلص مما سبق، التوصيات الآتية:
1. تكثيف الجهود لإيجاد استقرار عام في ضوابط إصدار الترتيبات التنظيمية، ومحلّ هذه الترتيبات في هرمية التشريعات التي تصدرها الجهة المختصة.
2. العمل على استقرار الفلسفة التشريعية لأدوات الإصدار، ووجود أدلة استرشادية من الجهات المختصة تساهم في استيعاب السياسة التشريعية العامة في المملكة؛ مما يساهم في وجود بيئة تشريعية أكثر متانةً واستقرارا.
3. دعوة الجهات الحكومية المختصة بالتعاون مع مراكز الأبحاث والممارسين المهنيين في القطاع القانوني، لإعداد دراسات مقارنة، ودراسات لقياس الأثر التنظيمي للأدوات التنظيمية الحديثة؛ لمساندتها في استقرار السياسة التشريعية في المملكة.