يتسلم دونالد ترمب ولايته الرئاسية الثانية في نهاية شهر يناير (كانون الثاني)، مع برامج معلنة تكرارا عن سياساته لقطاع الطاقة الأميركي. ونظرا لأهمية الدور الأميركي على ساحة الطاقة العالمية، فمن المتوقع أن تؤثر سياسات الطاقة المتوقعة هذه على الشرق الأوسط، وسياسات الطاقة العالمية، انضمت الولايات المتحدة إلى مجموعة الدول الكبرى الثلاث المنتجة للنفط الخام، السعودية وروسيا، بطاقة إنتاجية لكل منها تزيد على 12 مليون برميل يوميا، حيث بدأت الولايات المتحدة الارتفاع العالي في طاقتها الإنتاجية منذ منتصف العقد الماضي (2014-2015) مع الارتفاع العالي لإنتاج النفط الصخري. وقد ارتفعت الاحتياطات الغازية للولايات المتحدة أيضا في نفس الفترة، مع الإنتاج الضخم للغاز الصخري، حيث انضمت إلى مجموعة الدول الغازية الكبرى عالميا، روسيا وقطر وإيران. وكانت إحدى نتائج هذا الارتفاع الإنتاجي النفطي في حينه، انهيار أسعار النفط، ومن ثم التفاهم السعودي-الروسي النفطي، الذي أدى إلى تأسيس مجموعة «أوبك بلس» المتكونة من أعضاء منظمة «أوبك»، وأقطار منتجة من خارج عضوية المنظمة، ولعبت «أوبك بلس» المتكونة من أكثر من 20 دولة نفطية دورا مهما في استقرار الأسواق منذ حينه.
أدت هذه التحولات قبل عقد من الزمن تقريبا أيضا إلى تغييرات كبرى على صعيد ساحة الطاقة العالمية. فبدلا من أن تستمر الولايات المتحدة كدولة مستوردة للنفط الخام والمنتجات البترولية، أصبحت الولايات المتحدة، من أكبر الدول المنتجة للنفط خارج مجموعة «أوبك بلس»، بالإضافة إلى تحولها لدولة مصدرة للنفط الخام. والوضع نفسه بالنسبة للغاز المسال، إلى جانب هذا وذاك، تحاول الولايات المتحدة أن تلعب دورا مهما في إنتاج واستهلاك الطاقات المستدامة. لكن سياساتها الإنتاجية وحتى الاستهلاكية في هذا المجال تراوحت كثيرا بين الإيجابيات والسلبيات نظرا للاختلافات في وجهات النظر ما بين الحزبين الأميركيين. وقد لعب دونالد ترمب دورا كبيرا في هذه الاختلافات السياسية ما بين الحزبين الرئيسيين. كما أدى تناقض سياسته مع الرئيس الأسبق باراك أوباما إلى سحب عضوية بلاده من «اتفاقية باريس لمكافحة تغير المناخ لعام 2015»، التي تشكل الاتفاق الأساسي العالمي لتصفير الانبعاثات الكربونية بحلول منتصف القرن. إذ يعتبر الرئيس ترمب أن التحول إلى الطاقات المستدامة هو أمر مناقض ومضر لسياسته «أميركا أولا». بمعنى أنها سياسة مضرة للاقتصاد الأميركي.
أطلق ترمب عشرات الوعود في حملته الانتخابية الرئاسية الأخيرة حول سياساته للطاقة للسنوات الأربع المقبلة، في حال فوزه. وكما هو متوقع، ناقض ترمب معظم سياسات الطاقة التي تبناها الرئيس جو بايدن. وقد أشارت نتائج الانتخابات الأخيرة إلى فوز ساحق للجمهوريين في الرئاسة ومجلسي الشيوخ والنواب. ما سيوفر الإمكانية للرئيس ترمب لنجاح مشاريع القوانين التي سيطرحها على الكونغرس، فالنجاح الجمهوري في البيت الأبيض ومجلسي الكونغرس، حيث أغلبية قوى يمينية متطرفة ذات برامج، يمكن تلخيصها بـ«العودة للسياسات السابقة». هذا يعني عمليا، العودة إلى الاستكشاف والتنقيب عن النفط والغاز، لكن هذه المرة إعطاء الأولوية في الولايات المتحدة للنفط الصخري وتهميش تطوير صناعات الطاقات المستدامة (الشمسية والرياح)، بل وحتى احتمال الانسحاب ثانية من «اتفاقية باريس لمكافحة تغير المناخ لعام 2015»، كما صرح ترمب أثناء حملته الانتخابية.
معنى هذا، فعلا، هو تبني سياسة زيادة الطاقة الإنتاجية البترولية الأميركية، ما سيزود الولايات المتحدة بإمكانية زيادة دورها في أسواق النفط العالمية، كما سيمكنها من زيادة صادراتها للغاز المسال، بالذات للأقطار الأوروبية التي قاطعت إمدادات الغاز الروسي الضخمة بسبب حرب أوكرانيا، وستساعد سياسة ترمب في ارتفاع كبير في قيمة أسهم شركات النفط الصخري، وهذا أمر يشجعه أصحاب الملايين الذين يشكلون المجموعة الأكبر في فريق ترمب.
إن المهم في الأمر هو أن سياسات ترمب ستترك آثارا سلبية نتيجة تهميش الطاقات المستدامة، بالذات في تأخير أو تقليص برامج تصفير الانبعاثات بحلول منتصف القرن. إذ إن تقليص مساهمات واشنطن المالية لدول الجنوب وحتى للأبحاث الأميركية في مجال الطاقات المستدامة سيؤدي حتما إلى عرقلة برامج تصفير الانبعاثات. وذلك للدور الريادي الذي كان معولا عليه من بقية الدول الصناعية. فتقليص الدور الأميركي الآن سيزيد الأعباء على بقية أقطار العالم، والتي تشكو حتى قبل تهميش الدور الأميركي، من صعوبة المهمة في إنفاق تريليونات الدولارات على الأبحاث العلمية لتطوير صناعات «التقاط، وتخزين، وتدوير الكربون»، ناهيك عن تقليص تكاليف تشييد طاقتي الرياح والشمسية.
المدهش في تصريحات ترمب أثناء الحملة الانتخابية، هو تكراره دعم هذه السياسات وإصراره على تشريع عشرات القوانين خلال اليوم الأول لانتقاله إلى البيت الأبيض رسميا (20 يناير 2025). هناك عشرات التشريعات التي ينوي الرئيس ترمب تمريرها في اليوم الأول لعهده. وهذا أمر صعب للغاية، إن لم يكن مستحيلا فعليا. فحسب النظام الأميركي، يتوجب على الرئيس تحويل مشاريع القوانين إلى مجلسي الكونغرس للتداول والتصويت عليها خلال أسابيع أو أشهر.
لكن، في نفس الوقت، يستطيع الرئيس التشريع من خلال التوقيع على «أوامر تنفيذية» يوقع عليها في نفس يوم إقرارها من قبله، حيث تصبح بموازاة القوانين. وهذا ما سيحاول عمله فعلا، لتمرير قوانين الطاقة، وعشرات غيرها بخصوص مواجهة الهجرة غير الشرعية للولايات المتحدة، التي شكلت أولوية للحزب الجمهوري في الحملة الانتخابية، تكمن أهمية «الأوامر التنفيذية» في مجال الطاقة وفي هذه المرحلة بالذات، في موافقة الرئيس ترمب السريعة على الموافقة لشركات النفط بالاستكشاف والتنقيب عن النفط في أراضي «الحكومة الفيدرالية»، هذه الأراضي ذات المساحات الضخمة جدا، التي تَعتبر كثيرا منها «محميات» للطبيعة والحيوانات والنباتات. ونظرا لهذه الميزات البيئية للمحميات، فقد منعت الحكومات الأميركية السابقة شركات النفط من الحفر فيها.
أدت تصريحات ترمب حول المضي قدما مع شركات النفط المتحفزة للحفر في المحميات، إلى ردود فعل معارضة من حركات البيئة. من غير الواضح ما يمكن لهذه الحركات القيام به الآن سوى اللجوء للمحاكم الأميركية لمحاولة عرقلة هذا البرنامج. تقع الأغلبية الساحقة لهذه المحميات في ولاية ألاسكا، على مشارف القطب الشمالي، سيترك الرئيس ترمب، في حال التنفيذ الواسع لسياساته الطاقوية، آثارا مهمة على صعيد الطاقة العالمي. من أهمها، تأجيل تنفيذ «اتفاقية باريس لعام 2015»، ومن ثم تأجيل تصفير الانبعاثات بحلول منتصف القرن.
نقلا عن الشرق الأوسط