أهمية ثبات المعروض النقدي من خلال بيتكوين

08/12/2024 3
د. فهد الحويماني

يظن البعض أن العملات المشفرة، وعلى وجه الخصوص بيتكوين، أسلحة موجهة ضد البنوك المركزية التي تدير العملات الورقية في العالم، وكأن هناك حربا ضد العملات الورقية ستنتهي بتفوق العملات المشفرة والقضاء على العملة الورقية إلى الأبد، من يعتقد ذلك يشير إلى ظاهرة توسع المعروض النقدي وتأثير ذلك في تضخم الأسعار وتراجع القوة الشرائية للعملات الورقية التقليدية، وبالتالي فمن الواضح أن وجود عملة محدودة الإصدار مثل بيتكوين سيمنع اتساع المعروض النقدي والقضاء على التضخم، وذلك يعد أمرا محمودا! المشكلة أن هناك جملة من المغالطات في هذه الاعتقادات، دعونا نتطرق إليها على عجالة في هذه المقالة، نمو المعروض النقدي ليس مرتبطا فقط بالعملات الورقية، فالذهب الذي يطالب البعض باستخدامه كقاعدة نقدية ليس ثابت المعروض، بل إنه ينمو في المتوسط 1.75% سنوياً نتيجة أعمال المناجم والتعدين وإعادة التدوير، ولا يزال يعد سلاحا فعّالا ضد التضخم، لذا هل المطلوب بالفعل ثبات المعروض النقدي؟ وهل العلاقة بين كمية النقود والتضخم علاقة مؤكدة وقاطعة؟ أي هل ادعاء عرّاب النظرية النقدية، ميلتون فريدمان، صحيح بأن التضخم دائما وفي كل مكان ظاهرة نقدية؟ هذا التساؤل مهم جداً، لأنه لو كان التضخم مرتبطا بالمعروض النقدي، واتفقنا على أن التضخم ظاهرة سلبية، فبالتالي تصبح بيتكوين ذات الكمية المحددة عند 21 مليون قطعة أفضل سلاح ضد التضخم، لكن علينا أن نعود ونتأكد هل التضخم بالفعل أمر سلبي؟

الشواهد الاقتصادية تؤكد أن وجود تضخم سنوي بنسبة قليلة، مثلاً 2% كما هو مستهدف من قبل كبار البنوك المركزية، مفيد للنمو الاقتصادي، حيث تشير الدراسات إلى أن ذلك يدفع المستهلكين من أفراد وشركات إلى الصرف والاستثمار بدلاً من الاحتفاظ بأموال ستتراجع قوتها الشرائية مستقبلاً، ويدفع كذلك إلى الاقتراض قبل ارتفاع أسعار الفائدة، وزيادة على ذلك فالتضخم الخفيف يبعد شبح تراجع الأسعار الذي يشل الحركة التجارية والصناعية في البلاد، على العكس مما يعتقد البعض أنه مطلب اقتصادي سليم. لاستيعاب مثل هذه التغيرات فكر قليلاً كيف سيتحرك اقتصاد لا تتغير فيه الأسعار من عام لآخر، وزد على ذلك ماذا لو أن الأسعار تتراجع سنوياً! كيف تتغير معدلات الفائدة وكيف يتم الاقتراض وكيف تتأثر الحركة الشرائية إذا كانت الأسعار دوماً ستكون أفضل في المستقبل؟

ما ذكره ميلتون فريدمان من تأثير المعروض النقدي في التضخم صحيح على المدى الطويل، وهذا أمر مؤكد وواضح في نظرية النقود التي تقول ببساطة إن زيادة المعروض النقدي ستؤدي لا محالة إلى ارتفاع الأسعار ما لم يكن هناك إما زيادة في الإنتاج أو خفض لحدة النشاط الاقتصادي، أي سرعة دوران النقود، وللمهتمين هناك مقالة سابقة تحدثت فيها بالتفصيل عن حقيقة نظرية النقود وصحتها في تفسير ظاهرة التضخم. لذا لو أن بيتكوين - أو غيرها من أدوات ثابتة المعروض - أصبحت العملة الرسمية لأي دولة فبحسب نظرية النقود سيكون مصدر التأثير في الأسعار فقط العرض والطلب في الاقتصاد، بمعنى أن معدل دوران النقود وحده يؤثر في العرض والطلب ويتأثر بهما. للتذكير تقول النظرية - بشكل مبسط هنا - إن المعروض النقدي مضروباً في معدل دوران النقود يساوي الناتج المحلي، لذا لو بقي المعروض النقدي ثابتاً في جميع الأوقات، يكون دوران النقود العامل الوحيد المتعلق بالعرض والطلب والأسعار.

غني عن القول أن هناك حالات كثيرة، منها اليابان في العقود القليلة الماضية، وكذلك أمريكا عقب الأزمة المالية 2008، لم يؤثر فيها تزايد المعروض النقدي في التضخم، فمثلاً سنوات التيسير الكمي عقب 2008 التي نتج عنها تزايد مهول في المعروض النقدي لم تؤد إلى أي تضخم يذكر، وكذلك اليابان التي لسنوات طويلة استمرت في رفع المعروض النقدي دون حدوث أي تضخم، بل على العكس حدث تراجع في الأسعار. لذا فالاعتقاد بأن الهدف من بيتكوين الحد من اتساع المعروض النقدي ليس بالضرورة هدفاً مطلوباً، حيث لا تزال المشاهدات الواقعية أن هناك ضرورة لاستخدام السياسة النقدية لتحفيز الاقتصاد، وإن ثبات المعروض النقدي ليس بالضرورة العلاج المطلوب.

 

 

نقلا عن الاقتصادية