أصدر مركز جامعة ستانفورد للتنمية المستدامة والتنافسية العالمية Stanford University Center for Sustainable Development and Global Competitiveness (SDGC) في شهر أغسطس 2024م ورقة بحثية تشيد برؤية المملكة 2030، ومكامن قوتها، والانتقال من نموذج التحول الوطني إلى نموذج الاستدامة، والدور الرئيس لصندوق الاستثمارات العامة في تحقيق أهدافها، كما اقترحت حلولاً للتحديات الحالية والمستقبلية خصوصاً تلك التي تتعلق بالتمويل الحكومي، وتنويع الاقتصاد، وفي ظل التوجه الجديد لعمل الصناديق السيادية العالمية، أوضحت الورقة النموذج الجديد الذي تبناه صندوق الاستثمارات العامة في العمل المؤسسي الاستثماري العالمي بكونه صندوقًا سياديًا لتنويع الاقتصاد (Diversification Fund)، وذلك من خلال التحول من التركيز على استثمار فائض الإيرادات النفطية في الخارج إلى استثمارها في تطوير الاقتصاد المحلي وتنويعه. كما أشارت الورقة إلى مدى التقدم المحرز في خفض الاعتماد على النفط، وتنمية الإيرادات غير النفطية، وزيادة المرونة الاقتصادية، ودور قواعد السياسة المالية (Fiscal Rule) في استقرار الإنفاق العام، وإنشاء إطار مالي يمكن أن يسهم في بناء الأصول الأجنبية للمملكة واستدامتها.
كما تناولت موضوعات ذات أهمية في التوجه الاستثماري للمملكة بتسريع الابتكار، وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر عبر الشراكات الخارجية في مجالات عدة، وتعزيز الكفاءة في إدارة الأصول السيادية، بالإضافة إلى استثمار الثروة السيادية في الابتكار والتقنية في مجالات عدة تشمل الذكاء الاصطناعي والتقنية الحيوية والتصنيع الآلي، وتقنية المعلومات. مع أهمية إدارة استثمارات خارجية من قبل البنك المركزي السعودي (ساما)، وصندوق الاستثمارات العامة (PIF) ذات عوائد لدعم إيرادات الدولة بالعملة الأجنبية على المدى البعيد.
في الوقت الذي تستعرض فيه الورقة عدداً من أهم التحديات الحالية والمستقبلية لرؤية المملكة 2030، وتقدم توصيات بحلول عملية لتلك التحديات، يرى عدد من الاقتصاديين أن أحد أهم التوصيات يتعلق بالضوابط والقواعد المالية المطلوبة للاستدامة المالية وبناء احتياطيات كافية من العملة الأجنبية لدعم برامج الرؤية. يبرز ذلك جلياً في التوصية بشأن توحيد الاستثمارات الخارجية لصناديق الاستثمار الحكومية (Government Sponsored Funds) تحت مظلة البنك المركزي السعودي (ساما) لتوفر الخبرة، والتخصص في مجال إدارة الاستثمارات الخارجية.
إضافة إلى هدف ترشيد عملية إدارة الاستثمارات الخارجية للمملكة، توضح الدراسة بشكل دقيق أن الفائدة الاقتصادية من هذا الإصلاح تتعدى الهدف المباشر المتمثّل في المحافظة على النقد الأجنبي للمملكة، ورفع العوائد المتوقعة. ينطوي على هذه العملية تحقيق أهداف اقتصادية ومالية بالغة الأهمية لدعم رؤية المملكة 2030، وتحقيق القوة المالية المطلوبة. يتلخص ذلك في الآتي:
- إعادة دعم احتياطيات الدولة من النقد الأجنبي حيث إن العملات الأجنبية التي تمتلكها تلك الصناديق قد تم تحويلها أساساً إلى تلك الصناديق من احتياطيات النقد الأجنبي للبنك المركزي السعودي "ساما" خلال فترة عدم توفر استثمارات محلية كافية لتلك المبالغ. الفرص الاستثمارية المحلية المتاحة ارتفعت بشكل جذري خصوصاً مع بداية رؤية المملكة 2030. وأصبح أحد أهم أهداف الرؤية جذب الاستثمار إلى المملكة في حين استمر الاستثمار الخارجي للصناديق الحكومية في الأسواق المالية العالمية على نفس الوتيرة السابقة. هذا بالرغم من أن جميع التزامات تلك الصناديق بالريال السعودي، وليس بأي من العملات الأجنبية. كانت تلك الاستثمارات تدار في الماضي عن طريق "ساما" نيابة عن معظم تلك الصناديق، إلا أن الوضع تغيّر قبل أكثر من عشر سنوات عندما قررت تلك المؤسسات أن تكون إدارتها للاستثمار الخارجي داخلية في كل مؤسسة على حدة مع عدم القدرة على تأسيس أجهزة استثمار دولي لديها بنفس الإمكانات المتوفرة لدى "ساما".
- دعم السيولة المحلية والتمويل الحكومي المطلوب من خلال ضخ أصول بالريال لتلك الصناديق إضافة إلى الارتفاع الكبير لحساب احتياطي وزارة المالية بالريال لدى البنك المركزي نتيجة لتحويل الأصول الأجنبية مقابل سندات خاصة بالريال تصدرها وزارة المالية، مع أهمية الاستفادة من مثل هذا الارتفاع الكبير في حساب احتياطي وزارة المالية لدى البنك المركزي نحو التأسيس لصندوق استقرار بالريال السعودي Fund Stabilization جزء من القواعد المالية لضبط السياسة المالية، كما هو موضح بالتفصيل في الدراسة، والتي اعتمدت في هذه الجزئية بالذات على دراسة سابقة في جامعة هارفارد عن السياسة المالية السعودية.
وتؤكّد الورقة على سهولة آلية التطبيق؛ وهذه فعلياً آليات تطبيق معروفة ومثبتة في كثير من الحالات المماثلة بما في ذلك في المملكة عندما تعرضت إيرادات الدولة خلال العقود الماضية لانخفاض شديد نتيجة لتراجعات كبيرة في أسعار البترول. ولتوضيح آلية التطبيق، لو افترضنا أن مجموع استثمارات تلك الصناديق في الأسواق العالمية 200 مليار دولار، فإن عملية التطبيق تتم وفق التالي:
- تقوم وزارة المالية مقابل تحويل 200 مليار دولار إلى البنك المركزي السعودي بإصدار سندات خاصة بما يعادل ذلك المبلغ بالريال (750 مليار ريال) للمؤسسات الحكومية المشار إليها بعوائد مجزية والتي تشمل التقاعد (المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية)، وصندوق التنمية الوطني (NDF) وغيرها من صناديق التنمية والأوقاف الحكومية Government Endowments التعليمية والبحثية.
- ينتج عن ذلك في الحال زيادة في الأصول الخارجية للبنك المركزي السعودي بمقدار 200 مليار دولار، اي حوالي 40% زيادة في النقد الأجنبي لدى "ساما"، ويسجل مقابل ذلك في حساب احتياطي وزارة المالية لدى "ساما" مبلغ 750 مليار ريال.
يوضح المثال أعلاه أنه إضافة إلى الهدف المباشر في ترشيد وتقوية إدارة الاستثمارات الخارجية للمملكة لتكون مقتصرة على البنك المركزي السعودي (ساما) وصندوق الاستثمارات العامة لطبيعة العمل والاختصاص، فإنه ينتج عن ذلك أيضاً وفي غاية الأهمية زيادة بنسبة حوالي 40% في احتياطي البنك المركزي من النقد الأجنبي، وزيادة كبرى مماثلة في حساب احتياطي وزارة المالية بالريال السعودي لدى البنك المركزي بما يقارب 750 مليار ريال. يدعم ذلك بشكل كبير السيولة المحلية، ويخفف من ضغوط التمويل الحكومي، ويسهم في دعم مستوى التصنيف الائتماني للمملكة بما يقلل من تكاليف الاقتراض في القطاعين العام والخاص.
يرتفع بطبيعة الحال نتيجة لتلك العملية مستوى الدين الحكومي، ولكنه دين من جهات حكومية إلى أخرى وليس ديناً خارجياً. وفي الظروف الحالية، فإن ذلك يوفّر حل نموذجي في رأي المختصين للتحديات الحالية في التمويل الحكومي المطلوب لدعم برامج الرؤية، وللمحافظة على القوة المالية للمملكة من خلال دعم احتياطيات الدولة بالريال، وكذلك النقد الأجنبي من دون زيادة الاقتراض الخارجي سواء بالريال أو بالدولار.
تأتي قوة صمود رؤية المملكة 2030 Resilience ليس من برامجها فحسب؛ ولكن أيضاً من خلال أسلوب عمل جديد بأهداف واضحة يتم متابعتها بحزم من اعلى درجات اتخاذ القرار في المملكة العربية السعودية. ولا شك أيضاً ان مما يدعم فاعلية المبادرات والدراسات الاستراتيجية التي تخدم المملكة هو تطور بيئة العمل بشكل عام في رؤية المملكة ودرجة المحاسبة Accountability التي أتت بها وطبقتها.
لقد كان هناك حالات كثيرة لدراسات ومبادرات يتم الحكم عليها في السابق من قبل جهة حكومية واحدة وينتهي الامر عندها إما بالدعم أو الحجب لأسباب قد تكون صحيحة أو ربما لوجود تضارب في المصالح. اختلف الأمر الآن واصبحت القرارات تتخذ من جهة أعلى متمثلة في مركز الدولة من خلال إطار برامج سياسات عامة Public Policy واضحة. على سبيل المثال، كان لا يمكن أن يتم انشاء صندوق سيادي سعودي مستقل لو كان القرار مقتصراً فقط على جهة واحدة؛ أو أن يتم ضبط السياسة المالية وكفاءة الإنفاق من خلال أسس مالية أقرب ما تكون إلى قواعد مالية Fiscal Rules، وهذه أمور بالغة الاهمية في تطبيق السياسات العامة تحسب لرؤية المملكة 2030 وأهم مصادر قوتها.
المقالة نشرت في النشرة الفصلية لجمعية الاقتصاد السعودية عدد سبتمبر 2024