مع اقترابنا من نهاية عام 2024م، يواجه مجلس الاحتياطي الفيدرالي Federal Reserve (الذي هو بمثابة البنك المركزي في الولايات المتحدة الأمريكية) تحديات كبيرة في تحديد المسار الأمثل لأسعار الفائدة للفترة القادمة وسط إشارات متباينة من سوق العمل، حيث قام الفيدرالي مؤخراً بتخفيض أسعار الفائدة، استجابةً للإشارات التي أشارت إلى تباطؤ محتمل في مستوى التوظيف، ولكن هل تعكس هذه الإشارات الصورة الكاملة حقًا؟ ما هي أفضل وتيرة لخفض أسعار الفائدة لتعظيم المكاسب وتقليل التكاليف؟ يشهد الاقتصاد الأمريكي حالياً تغيّرات جذرية، وقد لا تكون الطرق التقليدية للسياسة النقدية كافية بعد الآن لتوجيهنا في الاتجاه الصحيح. إن الفجوة المتزايدة بين الصناعات التقنية الحديثة، والقطاعات التقليدية مثل التصنيع وغيره تخلق تحديات جديدة للسياسة النقدية لا يمكن للفيدرالي أن يتجاهلها.
وجه الاقتصاد الأمريكي المتغيّر لعدة عقود، دفع الاحتياطي الفيدرالي على اعتماد نماذج معقدة لاتخاذ قرارات بشأن أسعار الفائدة وأدوات السياسة الأخرى. غالباً ما تفترض هذه النماذج أن الاقتصاد بأكمله يتفاعل بطريقة مماثلة جذرياً، ولكن هذا لم يعد كذلك الآن. نحن نشهد فجوة متزايدة بين القطاع المعرفي المعتمد على التكنولوجيا وبين قطاع الصناعات التقليدية. يتميّز القطاع الأول بالابتكار السريع، وتكاليف حدية منخفضة، والقدرة على التوسع بسرعة من دون زيادة كبيرة في التوظيف. وعلى النقيض من ذلك، فلا تزال الصناعات التقليدية تعتمد بشكل كبير على العمالة، وهي صناعات أكثر حساسية تجاه التباطؤات الاقتصادية.
لنأخذ مثالاً إعلانات الوظائف خلال جائحة كورونا، إذ زادت وظائف التكنولوجيا حيث تكيفت الشركات مع طرق جديدة للعمل والحياة. ولكن مع ارتفاع أسعار الفائدة في 2022-2023، تعرض قطاع التكنولوجيا للضغط، مما أدى إلى تسريح واسع للعمال. من ناحية أخرى، شهدت صناعات مثل البناء انخفاضاً أبطأ وأكثر تدريجياً، وهي استجابةً مختلفة للضغوط الاقتصادية نفسها، وتنطلق أهمية هذا الأمر من أن هذا التباين له عواقب حقيقية حول كيفية فهمنا للاقتصاد، والأهم من ذلك، هي كيفية استجابة الفيدرالي والسياسة النقدية التي سيتبعها. إذا استمر الفيدرالي في التعامل مع الاقتصاد ككيان متجانس، فإنه يخاطر باتخاذ قرارات سياسية قد تفيد جزءًا من الاقتصاد، ولكن تضر بجزء آخر. على سبيل المثال، قد يؤدي تخفيض أسعار الفائدة السريع لتحفيز النمو الوظيفي إلى تعزيز شركات التكنولوجيا، ولكنه قد يترك الصناعات التقليدية بأثر مختلف وربما أبطأ.
وعلى الجانب الآخر، فإن الحفاظ على أسعار فائدة مرتفعة للحد من التضخم قد يخنق الابتكار في القطاعات التي تقود النمو على المدى الطويل. لكن الأهم من ذلك، هو أن وتيرة تخفيض أسعار الفائدة باتت مسألة حساسة للغاية في ظل هذه الفروقات بين القطاعات. ويمكن أن يكون التباطؤ في تخفيض الفائدة ضارًا للقطاعات التي تعتمد على الابتكار والتكنولوجيا، في حين أن التسرع في التخفيض قد يؤدي إلى فقاعات اقتصادية في هذه القطاعات نفسها من دون تقديم الدعم الكافي للصناعات التقليدية التي تعتمد على العمالة بشكل أكبر، هنا يجب التنويه أن الاقتصاد الأمريكي لم يعد محركاً يتحرك بسرعة واحدة. إنه محرك معقد بسرعتين، مع أجزاء تتحرك بوتيرة مختلفة، مما يعني أن تجاهل هذه الحقيقة قد يؤدي إلى سياسات إما أن تكون قاسية للغاية، والأسوأ من ذلك، قد تكون غير منتجة، علاوة على ذلك، تعتمد السياسة النقدية التقليدية في كثير من الأحيان على قواعد مثل Taylor Rule “قاعدة تايلور” التي تهدف إلى تحديد مستوى أسعار الفائدة المثلى بناءً على معدلات التضخم، والفجوة في الناتج المحلي الإجمالي (الفرق بين الناتج الفعلي والكامن). لكن قاعدة تايلور، رغم أهميتها في التوجيه العام للسياسة النقدية، تعاني من بعض القيود في الاقتصاد المعاصر المتعدد السرعات.
هذه القاعدة تعالج التضخم ككل، وتعامل الناتج كمجمل، من دون أن تأخذ في الاعتبار الفروقات بين القطاعات المختلفة في الاقتصاد. على سبيل المثال، قد يكون التضخم مرتفعاً في قطاع الخدمات الصحية، حيث ترتفع تكلفة الرعاية الصحية، بينما يكون التضخم في قطاع السلع التكنولوجية منخفضاً أو حتى سالباً نتيجة لانخفاض تكاليف الإنتاج وزيادة الكفاءة. إن هذا التعميم في السياسة النقدية قد يؤدي إلى اتخاذ قرارات قد تبدو مناسبة في الظاهر، لكنها في الواقع قد تؤدي إلى زيادة التفاوت بين القطاعات، وتفاقم عدم الاستقرار الاقتصادي.
ومما سبق يمكن القول: إن هناك حاجة ملحة لأن يعيد مجلس الاحتياطي الفيدرالي التفكير في نهجه التقليدي المعروف. فبدلاً من الاعتماد فقط على مؤشّرات عامة مثل التوظيف العام أو التضخم، ربما ينبغي عليه الغوص بعمق أكبر في بيانات محددة لكل قطاع. هذا الأمر سيسمح بتدخلات منه أكثر استهدافاً حيث تأخذ في الاعتبار الديناميكيات الفريدة للأجزاء المختلفة من الاقتصاد. علاوة على ذلك، يجب على الفيدرالي التواصل مع الجمهور حول هذه الفروق الدقيقة. وفي عالم يتزايد فيه تعقيد الاقتصاد، فإن إدارة التوقعات لا تقل أهمية عن إدارة السياسة.
وباختصار، الاقتصاد الأمريكي يتطور باستمرار، مما يعني ضرورة أن تتطور أيضاً معه الطريقة التي يتم توجيهه بها. كما أن القطاع المعرفي، بخصائصه الفريدة، يلعب دوراً متزايداً في دفع النمو الاقتصادي. لذا يجب على الفيدرالي أن يدرك هذا التحول وأن يتكيف مع سياساته وفقاً لذلك، ويبحث عن طريق جديد إلى الأمام. من خلال القيام بذلك، يمكنه التنقل بشكل أفضل في التحديات المقبلة، وضمان أن قراراته تعزز الاستقرار الاقتصادي والازدهار للجميع.
المقالة نشرت في النشرة الفصلية لجمعية الاقتصاد السعودية عدد سبتمبر 2024