وضعت السعودية أهدافًا وخططًا طموحة لقطاع التقنية المالية كجزء من رؤية 2030. وتسعى الخُطَّة إلى زيادة عدد شركات التقنية المالية في المملكة مع زيادة حجم الاستثمارات في رأس المال الجريء. لتحقيق هذه الأهداف، يجب على الجهات التنظيمية في المملكة الاستمرار في إيجاد حلول للتحديات التي تواجه نمو هذا القطاع، والتي تتمركز أبرزها حول وضع الأطر التنظيمية الحاضنة لهذا القطاع المتجدد، وتأسيس الإجراءات الشفافة في خطوات التعامل مع طلبات الترخيص، والتكيف مع ظروف السوق، والتكامل العالمي في قطاع التقنية المالية، بالإضافة إلى تسليح العاملين في الجهات المنظمة والمرخصة بالمعرفة والمهارات المواكبة لمستوى النمو السريع لهذا القطاع النشط، إذ تشكل الأدوار التشريعية في قطاع التقنية المالية تحديًا ليس بالهينًا في ظل حداثة هذا القطاع واتساع رقعة الابتكار في مجاله، لذا فإنّ التحدي الكامن في وضع التشريع الحاضن والملائم في ظل ندرة السوابق المعلوماتية والبيانات الوفيرة يواجه كافة المشرعين حول العالم، وليس المملكة فحسب. لك أن تتخيل عزيزي القارئ العملية التشريعية لهذا القطاع الذي لا يمكن التنبؤ مسبقًا بكافة مبتكراته ونماذج عمله، وبذلك يكون وضع إطار حاضن لابتكارات لم يتخيلها المشرع من قبل عسيرًا ومهددًا لصلابة أنظمة إدارة مخاطر الاستقرار المالي والبنية التحتية المالية في الدولة.
وهذا التحدي يؤدي أيضًا بدوره إلى تردد صانعي القرار في وضع إجراءات موحدة لكيفية التعامل مع طلبات الترخيص لتقنيات مالية جديدة لم يكن قد تم تنفيذها من قبل. فكما يعلم الجميع أن المشهد المثالي للعملية التشريعية تكون بعد وضع نماذج العمل في موضع التنفيذ واختبارها ومعرفة جوانبها وكيفية تنفيذها، وهذا يصعب في القطاع المالي كونه يتميز بالابتكار ويتسم بالمخاطر كون البنية التحتية للقطاع المالي (كنظام المدفوعات والربط بين البنوك والسجلات المالية وغيرها) تشترك في كافة التقنيات المالية، وبالتالي قد تتأثر سلبًا في حال فشل مشروع من مشاريع التقنية المالية – سواءً من ناحية مخاطر الأمن السيبراني أو الاستقرار المالي أو حماية المستهلك أو غير ذلك من نواحي قد تؤدي إلى أثر الدومينو على عدد من حلول التقنية المالية الأخرى.
فلنفترض مثلًا أن محفظة إلكترونية فقدت كافة بيانات حسابات المستخدمين لديها في حسابها التجميعي، ولنفترض أن مستخدمي هذه المحفظة يفوق عدد عشرون مليون مستخدم، فلكم أن تتخيلوا كم القضايا والشكاوى والأموال التي يمكن أن تهدر في هذه الحالة، مما قد يضعف من ثقة المستهلك في صلابة البنية التحتية لهذا القطاع في الدولة وبالتالي عزوف المستهلكين وهروب المستثمرين ومن ثم تأثر الاقتصاد الكلي للدولة في هذا القطاع. ولذلك فإن المشرع في السعودية (هيئة السوق المالية والبنك المركزي) يعتبر من أقوى وأكثر المشرعين موثوقية على النطاق العالمي، حيث لم تتأثر المملكة في أوقات عدّة مرت فيها غالبية دول العالم بأزمات مالية واقتصادية بسبب الإجراءات الصارمة في المملكة للحفاظ على جودة البنية التحتية للقطاع المالي – كأزمة الديون حول العالم وأزمة كورونا وغيرها. إلا أنه ومع ذلك؛ فلا بد من إرخاء الرباط بشكل مدروس لترك المجال للابتكار والشركات الناشئة للنمو والازدهار، وهو ما تم بالفعل من خلال مبادرات مختبرات التقنية المالية والبيئة التشريعية التجريبية، والتي يمكن أن تزداد فاعليتها بوضع إجراءات مكتوبة ومنشورة حول خطوات التعامل مع طلبات الترخيص لشركات التقنية المالية.
هذا ويلتمس المختصين في المملكة الدور الفاعل لمبادرة "فنتك السعودية"، التي أطلقت في المملكة لزيادة دور التقنية المالية ودعم مؤسساته، وهي مبادرة أطلقها البنك المركزي السعودي ("ساما") بالتعاون مع هيئة السوق المالية، إلا أن المنظمين في المملكة قد يرون مناسبة زيادة الدور الفعال لفنتك السعودية وتمكينه بشكل أكبر لإشراكه في إجراءات ظمآن جودة إجراءات التعامل مع طلبات الترخيص والتدقيق على أقسام الترخيص وإعداد التقارير الخاصة بهذا الشأن، خصوصًا وأن برنامَج التقنية المالية ينظر من منظور مؤسسات التقنية المالية، على عكس القائمين على أعمال منح الترخيص في المؤسسات الحكومية المنظمة للقطاع، مما يوفر التوازن بين منظور الجهة التنظيمية ومنظور الجهات الخاصة في هذا القطاع، وبالتالي توفير الرؤية الشاملة لهذا القطاع سواءً من وجهة المنظم أو وجهة نظر السوق. وعليه فإنه من المتوقع أن يكون تمكين منسوبي برنامَج فنتك السعودية من أدوار التحليل والتدقيق على أعمال منسوبي أقسام التراخيص في الجهات المنظمة أثرًا ذو علامة فارقة في تطوير نظام التقنية المالية في المملكة، فخطوة الترخيص هي الخطوة الفاصلة في حلول التقنية المالية، من حيث يكون أو لا يكون.
إن ضمان جودة عمل الموظف العامل على مراجعة طلبات الحصول على تراخيص التقنية المالية يمكن تحقيقه من عدة جوانب، فكما قامت الجهات المنظمة في المملكة بإخضاع العاملين في قطاع التنظيم المال لبرامج تدريبية هي الأفضل في العالم، يمكن كذلك زيادة وتيرة برامج التدوير الوظيفي على عدة إدارات لدى هذه الجهات، بما يشمل كافة جوانب معطيات منح الترخيص، بما في ذلك الأقسام القانونية والتجارية وأمن المعلومات وإدارة المخاطر، بما يمكنهم من النظر بعين الشمولية وفهم نقاط الضعف والقوة في كافة الجوانب ذات العلاقة. وتعد برامج التدريب والعمل في القطاع الخاص للتقنية المالية ضروريًا أيضًا لاكتساب الخبرة وفهم القطاع بجوانبه التنفيذية، بل أن انتداب منسوبي الجهات الرقابية للعمل في مؤسسات التقنية المالية يؤدي إلى لمس الواقع العملي والتماس التحديات التنظيمية
التي تواجهها هذه المؤسسات من منظورهم الدقيق، وبالتالي الإبصار بمنظور السوق في عين، ومنظور المنظم في العين الأخرى. إن هذه الأفكار تساعد بشكل جوهري في ضمان كفاءة ووجهة نظر شاملة لمراجعي طلبات التراخيص، وبالتالي ضمان قرارات موضوعية وشمولية وعادلة في هذا القطاع المتجدد.
بشكل عام؛ يواجه قطاع التقنية المالية تحديات عديدة في المملكة وحول العالم، ولكن مع فرص كبيرة للتغلب عليها من خلال آليات تمكينية تتمثل أبرزها في تدريب منسوبي الجهات التنظيمية وزيادة التعرض العملي والعملي لهم، مع زيادة دور منسوبي البرامج التخصصية في مجال التقنية المالية "فنتك السعودية" وتوفير الشفافية الكاملة في إجراءات مراجعة طلبات الترخيص والقرارات الرقابية بما يؤطر أعمال الرقابة ومنح التراخيص ويضمن الجودة والسرعة المطلوبة لهذا القطاع، بما سيؤدي حتمًا إلى تحقيق ازدهار لا مثيل له لهذا القطاع، كما هو الحال في المملكة العربية السعودية.
بعض الأرقام حول نمو قطاع التقنية المالية في السعودية
منذ إطلاق "فنتك السعودية" في عام 2018، زاد عدد شركات التقنية المالية في السعودية لعشرون (20) ضعفًا، ليصل إلى حوالي 200 شركة في عام 2023. وقد جذب قطاع التقنية المالية في السعودية استثمارات تجاوزت حد الأربع (4) مليارات ريال سعودي (مليار دولار أمريكي) وشاركت أكثر من مئة ألف (100,000) جهة من خلال فعاليات وبرامج تدريبية مرتبطة بالتقنية المالية.
إحدى المناطق التي شهدت نموًا ملحوظًا هي المحافظ الرقمية، والتي تعززت بسبب زيادة استخدام المدفوعات غير النقدية. في عام 2021، شكلت المدفوعات غير النقدية 62% من جميع المعاملات في المملكة، ارتفاعًا من 18% في عام 2016، وفقًا لبيانات البنك المركزي السعودي (ساما). واستمر قطاع المدفوعات الرقمية في النمو بعام 2023 ليصل إلى ما نسبته 70% من إجمالي المدفوعات. كما بلغت تنزيلات تطبيقات المحافظ الرقمية في السعودية 17 مليونًا في عام 2022، بزيادة كبيرة من 7 ملايين في عام 2021، مما يوضح أن أكثر من نصف سكان المملكة قد استخدموا محافظ رقمية في العام الماضي!
كما شهدت خيارات التمويل البديلة، مثل "اشتر الآن وادفع لاحقًا (BNPL)" والتمويل الجماعي بالدين، نموًا كبيرًا، وفقًا لتقرير ستاتيستا (Statista) حيث بلغ عدد مستخدمي BNPL في السعودية – وفقًا لها – 10 ملايين شخص في عام 2022، ارتفاعًا من 76,000 فقط في عام 2020.
أما في مجال التمويل الجماعي، زاد عدد المستثمرين من 302 في عام 2019 إلى أكثر من 92,000 في عام 2022. وقد أصدر هؤلاء المستثمرون معًا أكثر من 1,800 قرضًا بقيمة تتجاوز 1.1 مليار ريال سعودي (293 مليون دولار أمريكي) منذ عام 2019، مع صرف حوالي 770 مليون ريال سعودي (205 مليون دولار أمريكي) في عام 2022 وحده.
وفي قطاع التأمين، شهدت المنصات التجميعية لمقدمي خدمات التأمين ارتفاعًا ملحوظًا؛ فعلى الرغم من أن حوالي 375,000 شخص فقط قاموا بتنزيل تطبيقات المنصات التجميعية لمقدمي خدمات التأمين، إلا أن هذه المنصات شهدت زيارات لها تجاوزت 20.1 مليون في عام 2022. كما ارتفعت القيمة الإجمالية للمنتجات التأمينية الصادرة من خلال التجمعات التأمينية من 573 مليون ريال سعودي في عام 2018 إلى 4.2 مليار ريال سعودي في عام 2022.
خاص_الفابيتا