ليست جائحة كورونا ولا الإنفلونزا الموسمية هي من طرحت الاقتصاد العالمي في الفراش، بل إنها فيروسات السياسة والصراعات الدولية وهي أخطر ما قد يواجهه العالم اقتصادياً، فكورونا التي عطلت البشرية وأدت لتراجع حاد بالنمو الاقتصادي العالمي وشلت جزءًا من حركة التجارة الدولية كشفت عن بواطن خلل كبيرة بجهاز مناعة جسد الاقتصاد العالمي فلم يكد يصحو العالم من الأزمة المالية العالمية الكبرى في 2008 والتي أظهرت ضعفاً واسعاً بالأنظمة الرقابية على البنوك في أكبر الاقتصادات التي كانت مركز الأزمة حتى أتت جائحة كورونا لتفتح الباب على رؤية الثغرات الهائلة في التجارة والتصنيع وواقع التنمية في كل الدول ومن يسير بالطريق الصحيح ومن هو بعيد عن القرن الواحد والعشرين ويتخلف عنه بسنوات ضوئية، لكن كل ما ذكر ليس هو موطن المشكلة، فالسياسة هي المؤثّر والمعطل الأكبر للاقتصاد العالمي.
فالحرب الروسية الأوكرانية غيرت الكثير في اقتصاد الكتلة الأوروبية الضخم فالتكاليف ارتفعت بسبب تغير مصادر الطاقة من روسيا التي كانت تكلفة تصدير وأسعار غازها ونفطها رخيصة على أوروبا وتعتمد عليه دول القارة العجوز بنسب كبيرة جداً تحول إلى الاستيراد من أميركا التي أصبحت أكبر مصدر للغاز المسال بالعالم حالياً وبأسعار تعادل أربعة أصعاف سعر الغاز الروسي وكذلك اعتمدوا على مصادر للطاقة من دول بعيدة أيضاً أدى كل ذلك لارتفاع تكاليف صناعاتها وخدماتها وأدخل معظم الدول الأوروبية بمرحلة من الضعف بالنمو الاقتصادي كبيرة جداً وبعض الدول عانت من ركود يضاف لذلك ارتفاع أسعار السلع الغذائية الرئيسية بالسوق الدولية فروسيا وأوكرانيا من أكبر منتجي ومصدري الحبوب وتعطل الإمدادات خلال أغلب فترات الحرب التي ما زالت مشتعلة ولا يعرف لها نهاية أدى للتأثير على دول فقيرة في أمنها الغذائي وتعتمد على الواردات من الدولتين المتحاربتين مما عزَّز المخاوف من حدوث مجاعة وتضخم بتلك الدول المحدودة الإمكانيات كما أن هذه الحرب فرضت فيها الدول الغربية عقوبات على روسيا تجاوزت 10 آلاف عقوبة رغم أنها أحد أكبر الاقتصادات بالعالم وتعد من أكبر منتجي ومصدري الغاز والنفط والسلع الغذائية بالعالم بالإضافة إلى أن هذه العقوبات فتحت أعين الاقتصادات الناشئة على ضرورة التحوط من اعتماد آليات يسير عليها الاقتصاد العالمي منذ عقود فكثير من هذه الدول بدأت بالفعل التحول بجزء من تعاملاتها التجارية للعملات المحلية بدلاً من الدولار كما أن أسلوب إدارة احتياطيات الكثير من الدول لأموالها بالخارج بدأ يتغير من السندات الدولارية في السوق الأمريكي إلى استثمارات متعددة بأشكالها ومناطقها الجغرافية مما سيقلّل تدريجياً الاعتماد على الدولار وقد يكون بوقت أقصر من التوقعات السابقة وهو ما ينذر بهزة في الاقتصاد العالمي.
حيث إن مثل هذا التحول السريع عن الدولار قد يربك الأسواق الدولية ويعيد حسابات المستثمرين وستنتهي المسلمات السابقة بأهمية الدولار إلى غير رجعة لكن من المعروف أن إعادة بناء المراكز الاستثمارية لن يتحقق دون تصحيحات كبرى بالأسواق وأسعار العملات وهو أمر خطر سيواجه من أميركا بردة فعل كبيرة وهي التي يعد الدولار أحد أهم أعمدة اتحادها، أما الخلافات السياسية التلها تأثير بالغ أيضاً فهي في العلاقة بين الصين وأميركا وما فرضته الأخيرة من رسوم على المنتجات الصينية بالسوق الأمريكي مشعلةً بذلك حرباً تجارية في ظاهرها لكن لها أبعاد سياسية تهدف لتعطيل تقدم نمو الاقتصاد الصيني حتى لا تزيح أميركا من المركز الأول دولياً، فالضغط على بكين ليس بملف الرسوم، بل أيضاً في ملف تايوان وكذلك التحالفات في المحيطين الهادئ والهندي والمناورات العسكرية قرب بحر الصين، فكل شيء يحدث يشير لولادة أزمات سياسية لن يفلت الاقتصاد العالمي من تأثيراتها أما أحداث غزة الدامية والإجرام الذي تمارسه إسرائيل عليها فبدأ يتسع تأثيرها ووصل لتهديد الملاحة بالبحر الأحمر نتيجة هجمات الحوثيين على سفن تجارية يعتقدون أنها تذهب أو تخرج من إسرائيل وظناً منهم أن ذلك يدعم غزة بوجه هذا العدوان بينما الواقع هو أن هذه سفن لا علاقة لها بإسرائيل وتعود ملكيتها لدول عديدة وأن ذلك تسبب برفع أسعار النقل عالمياً وهو ما سينعكس بأسعار السلع التي تمر عبر البحر الأحمر الذي يعد شرياناً عالمياً للتجارة ويمر منه 13 بالمائة من التجارة الدولية وهنا تعود لأثر السياسة من جديد فإيقاف هذه الحرب العبثية سيؤدي لعودة الهدوء والاستقرار للمنطقة وبالتالي يبعد شبح الأزمات الاقتصادية عنها.
إنفلونزا السياسة أصابت الاقتصاد العالمي وأدت لخمول وضعف بجهاز المناعة فيه واستمرار هذه الأزمات دون حل قريب لن يكون له عواقب وتداعيات إلا الكوارث الاقتصادية وأخطرها بخلاف كل ما ذكر هو بدء التخلف عن سداد الديون التي بلغ حجمها عالمياً 300 تريليون دولار وهو ما يعني كارثة مالية واقتصادية لن يعرف مداها وأثرها وما قد يترتب عليها من احتمال المواجهات العسكرية الكبرى فلطالما أعقب مثل هذه الأزمات إذا حدثت حروب عالمية مدمرة.
نقلا عن الجزيرة
كما نشرت أمريكا فيروس كورونا فهي التي تنشر فيروس الحروب والصراعات حول العالم وفي جميع المجالات