تتضح أهمية الدراسات المستقبلية عند النظر إلى التغيرات طويلة المدى، هذه التغيرات التي عادة ما تحدث بشكل بطيء، ولكن آثارها تكون كبيرة، ولفهم ذلك يمكن مقارنة أي قطاع في الوقت الحالي بما كان عليه قبل 10 أو 20 عاماً، وسيلاحظ المقارن الفوارق الكبيرة في هذا القطاع، وما أحدثته التغيرات من تحولات في هذا القطاع، بل قد يلاحظ خروج بعض الشركات من الأسواق بفعل هذه التغيرات. والتأكيد هنا على أن هذه التغيرات قد تكون في مجالات كثيرة، فالتغيرات التقنية هي أن تنشأ تقنيات جديدة تستبدل التقنيات القديمة، وهو ما يعني تشكيل أسواق وصناعات جديدة. والتغيرات الاجتماعية قد تعني أن تتغير بعض المفاهيم الاجتماعية لتكون بعض المنتجات مقبولة أو غير مقبولة، والمثال لذلك ما يحدث في الدول الأوروبية من نفور تجاه المنتجات النفطية. والتغيرات الجيوسياسية قد تعني منع أو اختفاء بعض المنتجات بسبب الحروب أو المشكلات السياسية، ويؤثر ذلك في سلاسل الإمداد بشكل مباشر، ولكنه قد يخلق صناعات جديدة في أماكن جغرافية متنوعة.
والدراسات المستقبلية هي حجر الأساس في إعداد الاستراتيجيات، فلا يمكن بناء خطط طويلة المدى بناءً على البيانات التاريخية فحسب، ومجرد توقع أن العالم سيتصرف في المستقبل تماماً كما فعل في الماضي، بل إن التغيرات تؤثر وبشكل حاسم في اتجاهات قطاعات الأعمال، وهذه التغيرات تتنوع من تغيرات تقنية تؤثر في القطاع بشكل مباشر لدرجة أنها قد تخرج بعض الشركات من السوق. وهذا ليس من المبالغة في شيء، فبمجرد انتشار الهواتف الذكية ذات الكاميرات، خرجت عشرات الشركات المصنعة للكاميرات التقليدية بسلاسل قيمها من مصنّعي الأفلام إلى متاجر تحميض الصور وغيرها، وشركة «كوداك» خير مثال لذلك. وقد تكون هذه التغيرات جيوسياسية، والأمر هنا لا يرتبط بتوقع النزاعات الجيوسياسية، بل في اقتراح الحلول والسيناريوهات إذا حدث نزاع جيوسياسي، وما يرتبط به من اقتراحات لزيادة الاحتياطيات المالية، أو تنويع النشاطات التجارية، أو غيرها من خطط التحوط الدفاعية للشركات.
وتلعب الدراسات المستقبلية دورها محورياً في إدارة المخاطر للشركات، والأمر هنا لا ينطبق على التحولات التقنية فحسب، بل يمتد إلى ما وراء ذلك. فمن خلال تحليل البيانات التاريخية، ونمذجة السيناريوهات المختلفة، يمكن للشركات تقييم احتماليات متعددة لما يمكن أن يحدث في المستقبل، وتحديد الموارد لها سواء للاستفادة منها، أو لتخفيف مخاطرها. أحد أبرز الأمثلة لذلك ما تفعله الشركات متعددة الجنسيات والتي تعمل في مناطق مختلفة حول العالم بخصوص التنبؤات المستقبلية لأسعار صرف العملات. كذلك ما تفعله الشركات المنكشفة على سلاسل التوريد، باستكشاف احتماليات تأثر سلاسل التوريد، واقتراح بدائل في حال اختلال السوق.
ولو كانت الشركات قد تعلمت شيئاً من الجائحة، فهو أهمية المرونة، وضرورة سرعة التكيف مع التغيرات العالمية. ويسهم استشراف المستقبل في بناء مرونة تنظيمية للشركات من خلال توفير الأدوات اللازمة للتحضير، والاستجابة للتغيرات، والتعافي من الصدمات. ولا ينحصر الأمر في الجوائح فحسب، بل يمتد إلى الأوضاع الاقتصادية العالمية، والتغيرات التقنية المؤثرة، وقد لعبت أدوات التنبؤ دوراً مهماً خلال الجائحة في معرفة سلوكيات المستهلكين وتقلبات الطلب، كما زادت من ثروة البيانات لدى الشركات.
إن الدراسات المستقبلية تخصص يمكن أن يسهم فيه أصحاب تخصصات متنوعة، ولذلك فمراكز الدراسات المستقبلية عادة ما تتضمن خبراء من قطاعات متعددة، وعادة ما تقوم مراكز الفكر بتولي هذا النوع من الدراسات لحاجتها إلى عدد كبير من الخبراء. ولكن المستفيدين من هذه الدراسات، أو حتى المطلعين عليها قليل جداً، وقد ينظر إليها البعض بوصفها نوعاً من «الفانتازيا». والواقع أن الحصول عليها لا يكلف الكثير، بل إن معظم مراكز الفكر تنشر هذه الدراسات دون الحصول على رسوم مالية، إلا أن ما يكلف هو أن تؤخذ هذه الدراسات وتطبق على واقع محلي أو على بيئات اجتماعية مختلفة، وهذا في الواقع هو ما يضفي عليها أهمية كبيرة.
نقلا عن الشرق الأوسط