في مقابل تطور وتنوع وتعدد أساليب المضاربة يظل أسلوب الاستثمار ثابتا لا يتغير، وهو الاستثمار على المدى الطويل، الذي لتحقيقه يمكن استخدام أدوات تحليل مبتكرة وبيانات وافرة وافية وتقنيات حديثة، إلا أن فكرته الأساسية لم تتغير، وهي الشراء لأهداف طويلة الأمد، في الأسهم لا تقل عن خمسة أعوام بحسب كثير من الخبراء، لذا يقع لبس لدى كثير من المتعاملين في الأسهم في تحديد أي من الطرق الأفضل لتحقيق الربح، هل هي المضاربة أم الاستثمار. مصدر الصعوبة في الإجابة عن هذا السؤال الشائع أن هناك عوامل كثيرة تحدد قرار الاختيار بين المضاربة والاستثمار في الأسهم، أهمها حقيقة الشخص السائل نفسه، من حيث أهدافه وسلوكه وحجم رأسماله والفترة الزمنية المنشودة، ثم هناك أنواع الأسهم المستهدفة من قبل الشخص، وهناك السوق المراد الاستثمار من خلالها، وغير ذلك.
لم يتغير شيء في حقيقة أن الاستثمار طويل المدى هو الحل شبه المضمون لكثير من الناس في الاستثمار في الأسهم، والسبب أن ذلك يتضح في البيانات التاريخية لحركة الأسهم في جميع دول العالم، حيث تأتي العوائد السنوية التراكمية في حدود 10 في المائة. للتحقق من طبيعة هذه العوائد قمت بدراسة بيانات خاصة بالأسهم الأمريكية "إس آند بي 500" رصدتها جامعة نيويورك، تشمل عائد سعر السهم والأرباح في كل عام. البيانات تشير إلى أن استثمار 100 دولار في 1928 أصبح 624 ألف دولار بنهاية 2022، لكن تلك مدة طويلة جدا، لذا قمت بدراسة العوائد على فترات زمنية متعددة، مثلا هنا اخترت فترة عشرة أعوام للاستثمار، وتبين أن العوائد تختلف من فترة إلى أخرى، فكانت انخفاضا في حدود 6 في المائة لأول عشرة أعوام، من 1928 إلى 1937، والسبب أنه تخللت ذلك أعوام حصلت فيها انهيارات حادة في الأسواق، 25 و35 و44 في المائة، أما معظم فترات الأعوام العشرة فكانت تحقق عوائد من 100 إلى 500 في المائة، عدا فترة عشرة أعوام المنتهية في 2008 حققت خسارة بنسبة 12 في المائة، بسبب انهيار فقاعة الإنترنت والأزمة المالية العالمية.
أما المضاربة فلا تزال جاذبة لكثير من المتعاملين، وهم في الأغلب صغار المتداولين أو أولئك الذين يضاربون بمبالغ قليلة نسبيا مقارنة برؤوس أموالهم، أو أنهم المضاربون المحترفون وهم المؤسسات المالية التي لديها أموال معدة لذلك. سبب انجذاب الأفراد نحو المضاربة هو أن الاستثمار على المدى الطويل غير مجد باستخدام مبالغ قليلة، فمثلا شاب لديه عشرة آلاف ريال في كثير من الحالات لن يقبل بركنها لعشرة أعوام لتصبح 20 ألفا أو 40 ألف ريال، بينما من خلال المضاربة تجده يطمح في مضاعفة المبلغ عدة مرات خلال هذه المدة. لذا فالجواب الصحيح لمسألة المضاربة أم الاستثمار تعتمد أولا على أهداف الشخص، فإذا كان هدف الشخص تحقيق عوائد تتجاوز عشرة أضعاف رأسماله خلال أعوام قليلة فليس أمامه إلا المضاربة في الأسهم وغيرها من الوسائل ذات المخاطرة العالية، أو التوجه نحو قنوات تجارية واستثمارية مختلفة.
خيارات المتعاملين في سوق الأسهم السعودية محدودة بطبيعة الحال، لذا فإن الاتجاه نحو الاستثمار طويل الأمد هو الحل الأنسب لمعظم الناس، ويتم ذلك إما بتصميم محفظة من عدة شركات ومتابعة أدائها وتعديلها قليلا من فترة إلى أخرى، أو الاتجاه إلى الصناديق الاستثمارية وهي كثيرة ومتنوعة، أو اختيار أحد الصناديق المتداولة التي تتبع أداء مؤشرات معينة، بحيث يتحقق للشخص أداء الأسهم المستهدفة دون متابعة من قبله، مع الأخذ في الحسبان أن طول المدة في حالة الصناديق الاستثمارية العادية أو المتداولة يعني استقطاع نسبة عالية من الأرباح في نهاية المطاف. أما المضاربة اليومية في الأسهم السعودية فهي غير مناسبة لمعظم المتداولين بسبب ارتفاع عمولة التداول واتساع الفارق بين أسعار العرض والطلب ومحدودية أدوات التحوط أو انعدامها تماما. لذا بعض المضاربين يلجأ إلى المضاربة بأسلوب "سوينج" وهو المضاربة على فترات زمنية طويلة نسبيا، تمتد إلى عدة أسابيع في كثير من الحالات.
هذه المعوقات أمام المضارب المحلي تجعل الحلول المتاحة أمامه إما الاتجاه إلى الأسواق الأمريكية أو الابتعاد عن المضاربة قصيرة المدى في السوق المحلية والانتظار إلى أن تصبح بيئة التداول مشجعة للمضاربين. وبالفعل هناك عدد من الخطوات التطويرية تمت وتتم في السوق السعودية من شأنها دعم نشاط المضاربة في السوق، وتشمل افتتاح سوق العقود المستقبلية وسوق عقود الخيارات قريبا، إلى جانب السماح بالبيع على المكشوف والعمل بآلية صناع السوق، إلى جانب ما سبق أن طرحته هنا عن أهمية إتاحة التداول اليومي، التي من خلالها يسمح للمتداول بالحصول على ثلاثة أضعاف رأسماله كسيولة خالية من الفائدة متاحة لمدة يوم واحد فقط، بحسب شروط وضوابط معينة.
هذه الخطوات ستفيد -بلا شك- في رفع نشاط السوق السعودية وتحسن جاذبيتها أمام المتداولين في الداخل والخارج، ولا سيما أن هناك أهدافا معلنة من قبل الجهات المعنية بجعل السوق المالية السعودية إحدى أهم الأسواق المالية في العالم والأولى عربيا، لكن لا يزال حجم التداول اليومي قليلا جدا. كمثال فقط، يتم يوميا تداول نحو 100 مليون سهم لأحد الأسهم الأمريكية SPY، ما يعادل نحو 160 مليارا يوميا، بينما السوق السعودية بجميع أسهمها، بما في ذلك البنوك و"أرامكو" و"سابك" وشركات الاتصالات وشركات التأمين وغيرها، لا يتجاوز تداولها اليومي خمسة مليارات ريال.
تتبقى هناك جوانب تتعلق بحرية المضاربة، إن صح التعبير، وهي أن المضارب في السوق المحلية معرض لمخاطر انتهاك لائحة سلوكيات السوق، التي سبق أن كتبت عنها عدة مرات، وذلك بسبب غموض اللائحة في مواضع، وسهولة تفسير بعض التصرفات على أنها مخالفة، ولا سيما أن العقوبات شديدة ومكلفة، وقد تودي بالشخص إلى السجن في بعض الحالات. لن أتوسع في الشرح هنا، لكن أساس المشكلة أن هناك سلوكيات عادية وتمارس يوميا في الأسواق الخارجية، لكنها تفسر هنا على أنها جريمة، وهذه -لا شك- تحد من المضاربة النظيفة المرغوبة.
نقلا عن الاقتصادية