مخالفات السوق المالية .. حماية من يطلقون الصافرات

30/10/2023 2
د. فهد الحويماني

مشكلة الأسواق المالية في كل مكان أنها كيانات بالغة التعقيد من حيث هياكلها وتعدد وتنوع الأصول والأسهم والمشتقات والعقود التي يتم تداولها، واعتمادها على قدرة المتداولين في تحديد الأسعار بحسب ما يتوافر لديهم من معلومات وتحليلات ودراسات، ما يعني أن هذه الجهود تتطلب صحة المعلومات والأخبار وسلامتها من الغش والتدليس. لذا تم تخصيص فصل كامل في نظام السوق المالية معني بالاحتيال والتداول بناء على معلومات داخلية، إلى جانب فصل آخر خاص بالعقوبات والأحكام الجزائية للمخالفات، ومن ثم قبل عامين صدرت لائحة الإبلاغ عن مخالفات السوق المالية كوسيلة لحث المهتمين والمطلعين والمتداولين على الإبلاغ عن أي حالات يرون أنها تخالف أنظمة السوق المالية، والحصول على مكافآت مالية مقابل قيامهم بذلك.

التجارب الدولية أثبتت أن الاستعانة بجهود عامة المهتمين والمعنيين تعد من أفضل الطرق للتعامل مع تلك التجاوزات التي تحدث، سواء من خلال التداول والتلاعب بالأسعار، أو عن طريق التسلح بمعلومات داخلية والاستفادة منها في تحقيق أرباح غير مستحقة، أو قيام بعض الشركات بالتلاعب بالقوائم المالية من أجل تضليل المستثمرين وإخفاء قصور الإدارات التنفيذية وإخفاقاتها. منذ إطلاق برنامج الإبلاغ عن المخالفات في 2012 تم منح 1.7 مليار دولار كمكافآت لنحو 330 شخصا، علما بأن الهيئة الأمريكية تتلقى بلاغات حتى من خارج الولايات المتحدة، أكثرها جاء من كندا والمملكة المتحدة وألمانيا والصين والمكسيك والبرازيل على التوالي.

الطريقة التي أقرتها هيئة السوق المالية السعودية شبيهة إلى حد كبير بالآلية المتبعة من قبل هيئة الأوراق والأسواق الأمريكية، لذا نقوم هنا باستعراض التجربة الأمريكية من باب المقارنة والاستفادة من الطرق والحلول المتبعة للتشجيع على الإبلاغ والحد من التجاوزات التي تقع بين الحين والآخر. أول ما يلفت النظر في التجربة الأمريكية أن هناك مكتبا خاصا بالبلاغات اسمه مكتب مطلقي الصافرات، له نشاطات ملحوظة ويقوم بنشر أخبار تتعلق بالبلاغات والمكافآت التي يقوم المكتب بدفعها للمبلغين. المبالغ التي يتم دفعها كبيرة في بعض الأحيان، تتجاوز 100 مليون دولار، وهي عادة بين 10 و30 في المائة من الغرامات التي تتحصل عليها الهيئة الأمريكية، وتدفع للمستحقين شريطة تجاوز مبلغ الغرامة مليون دولار، وفي المملكة تمنح لائحة الإبلاغ عن المخالفات مكافآت تصل إلى 20 في المائة من المبالغ المحصلة من الغرامات، بشرط أن تكون نتيجة غرامات وجزاءات بأكثر من مليون ريال.

هناك جانب آخر لعملية الإبلاغ، وهو حماية المبلغين من أي مضايقات أو انتقام قد يتعرضون له عندما يقومون بالإبلاغ عن المخالفات، وتحديدا هناك ضوابط في القانون الأمريكي تلزم الشركات بتضمين عقود الموظفين عبارات واضحة تؤكد حرية الموظف في الإبلاغ عن التجاوزات وعدم التعرض له بسوء، فيستطيع الاستمرار في مزاولة عمله دون أي مضايقات. الشهر الماضي قامت الهيئة الأمريكية بفرض غرامة بمقدار عشرة ملايين دولار على شركة الاستثمار "دي إي شاو" بسبب قيام الشركة بإلزام موظفيها بتوقيع تعهدات بعدم إفشاء أي من أسرار الشركة لأي طرف ثالث، دون الإشارة إلى أن ذلك لا يشمل من يقومون بالإبلاغ عن التجاوزات إلى الهيئة الأمريكية، وذلك لأن الهيئة تسعى إلى منع ما قد يعوق الموظفين من المبادرة بالإبلاغ. كما أن هناك جانبا مهما من عملية الإبلاغ، ولا سيما أن مبالغ المكافآت ضخمة في كثير من الحالات. إن الموظفين المختصين بالرقابة أو التدقيق أو التفتيش لا يتحصلون على أي مكافآت عندما يقومون بالإبلاغ، إلا بعد أن يقوموا بإبلاغ الجهة بالمخالفة والانتظار لمدة أربعة أشهر ليتمكنوا من الإبلاغ، وذلك لأن رصد المخالفات وتصحيح الأخطاء جزء من عملهم.

في اللائحة السعودية هناك مادة خاصة بحماية المبلغين، تشترط على جميع الجهات العاملة في السوق، كمركزي المقاصة والإيداع والشركات المدرجة، وضع سياسة داخلية تعتمد من مجلس الإدارة تتضمن حماية المبلغين وعدم اتخاذ أي إجراءات تأديبية بحق العاملين، ولا المساس بأي من حقوقهم أو ميزاتهم الوظيفية، ولا نعلم مدى الالتزام بذلك، وهل تقوم الهيئة بالتحقق من وجود تلك السياسة لدى تلك الجهات.

في صيف هذا العام قامت هيئة الأسواق الأمريكية بمنح أعلى مكافأة لشخص قام بالإبلاغ عن حالة معينة، عادة لا يفصح عن اسم الشخص ولا تفاصيل الحالة، بمقدار 279 مليون دولار، وكانت المكافأة الأعلى قبل ذلك بمقدار 114 مليون دولار تم منحها لشخص آخر في 2020.

في التجربة الأمريكية نحو 21 في المائة من البلاغات عبارة عن تلاعب بالأسعار، و17 في المائة خاصة بعمليات تضليل متعلقة بالطروحات الأولية، و14 في المائة متعلقة بالعملات المشفرة، و13 في المائة بلاغات متعلقة بالإفصاح والبيانات المالية، معظمها مخالفات لمبدأ الاستحقاق المحاسبي المتعلق بالإيرادات. هذه من التجاوزات المعروفة وتحدث حين تلجأ الشركات إلى التسجيل الفوري لإيرادات مستحقة مستقبلا بهدف تحسين نتائج الربع الحالي، أو حين تقوم بتسجيل إيرادات وهمية كما قامت بذلك شركة قهوة لوكن في 2019 بتسجيل 300 مليون دولار كمبيعات لم تحدث إطلاقا، أو اللجوء إلى أسلوب حشو قنوات التوزيع من خلال إرسال كميات كبيرة من المنتجات إلى الموزعين وتسجيلها على أنها عمليات بيع متحققة، إلى جانب أساليب أخرى تمت من خلال البيع الوهمي لأطراف ذات علاقة، أو أشهرها على الإطلاق عمليات التلاعب بالتقديرات المحاسبية، لإظهار النتائج المالية بشكل أفضل من حقيقتها.

 

 

 

نقلا عن الاقتصادية