لعدة أعوام، كان نقص الاستثمار في عمليات التنقيب عن النفط والغاز يمثل تحديا كبيرا لأمن إمدادات الطاقة، حيث حذر عديد من المسؤولين التنفيذيين في الصناعة، وأبرزهم من شركات النفط العملاقة في الشرق الأوسط مثل أرامكو، من أنه ما لم ينتعش الإنفاق على عمليات الاستكشاف، فإن أمن الطاقة العالمي سيتعرض للخطر. بالفعل، يتزايد الإنفاق على عمليات الاستكشاف حيث تضع شركات النفط الكبرى الآن أمن إمدادات النفط والغاز وأرباح الصناعة الاستخراجية الأعلى قبل الاستثمار في حلول الطاقة منخفضة الكربون ذات العائد المنخفض، في هذا الجانب، ذكر تقرير صدر أخيرا عن "وود ماكينزي" أن الاستثمار في عمليات التنقيب الجديدة عن النفط والغاز آخذ في التعافي، ومن المتوقع أن تصل إلى متوسط 22 مليار دولار سنويا على مدى الأعوام الأربعة المقبلة، على الرغم من توجيه المليارات إلى تحول الطاقة بعيدا عن الهيدروكربونات. إن الرياح المواتية الناجمة عن اقتصادات عمليات الاستكشاف، والحاجة إلى أمن الطاقة وظهور مواقع استكشاف جديدة، حفزت الشركات، بقيادة شركات النفط الوطنية والشركات الكبرى، على زيادة الإنفاق على الاستكشاف حتى عام 2027. وسيبدأ النمو في هذا العام، مع توقع زيادة الإنفاق بنسبة 6.8 في المائة مقارنة بإجمالي 2022. الدافع الرئيس لهذا النشاط المتزايد هو دراسة الجدوى الاقتصادية القوية. وفقا لـ"وود ماكينزي"، كانت عائدات عمليات الاستكشاف أعلى باستمرار من 10 في المائة منذ 2018 وتجاوزت 20 في المائة في 2022.
بالفعل، أدت هذه النتائج الإيجابية إلى زيادة الثقة في عمليات التنقيب عن النفط والغاز. يعود هذا النجاح إلى عديد من العوامل. الموثوقية العالية للرقع الاستكشافية إلى جانب الانضباط الكبير في الإنفاق واختيار المواقع ذات احتمالية النجاح العالية يعني أنه يتم التنقيب في أفضل المناطق فقط وتقليل الهدر إلى الحد الأدنى. كما أن تحسين الكفاءة تسهم أيضا في تعزيز العائدات من عمليات التطوير والاستكشاف. وفي الوقت نفسه، هناك علاقة بين تحول الطاقة وانتعاش الإنفاق على عمليات الاستكشاف الجديدة. ويعود هذا الارتباط بالمتطلبات الجديدة التي أوجدها تحول الطاقة إلى الشركات النفطية. على سبيل المثال، الضغط للتركيز على الأصول ذات الانبعاثات المنخفضة، والمتطلبات البيئية الأكثر صرامة التي من شأنها أن تجعل بعض الاستكشافات غير قابلة للتطوير.
على الرغم من أن هذا الانتعاش قد يفاجئ البعض، إلا أنه يجب أن ينظر إليه في سياقه التاريخي. إن عمليات الاستكشاف شهدت طفرة خلال الفترة من 2006 إلى 2014، حيث بلغ الإنفاق ذروته عند 79 مليار دولار. لكن، في الأعوام الستة السابقة، بلغ المتوسط 27 مليار دولار سنويا. على الرغم من أن الإنفاق سيزداد، إلا أنه لن يعود إلى أي مكان قريب من المستويات المرتفعة السابقة، ومن المرجح أن يكون هناك سقف للزيادة. حيث إن هناك نقصا في الرقع الاستكشافية عالية الجودة التي من شأنها أن تلبي المقاييس الاقتصادية، والمعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة الحالية، كما أن التركيز المستمر على انضباط رأس المال من شأنه أن يكبح الإفراط في الإنفاق.
وبعبارة أخرى، بما أن تعافي الإنفاق يحدث وسط مضاعفة عملية تحول الطاقة، فسوف يكون مقيدا بهذا التحول. ومع ذلك، فإن هذا يحدث على الرغم من القيود، وهو أمر مهم للغاية. لأن الدعوات لإنهاء صناعة الهيدروكربونات تصاعدت منذ بداية العام. في هذا الجانب، انتقد بعض نشطاء البيئة "قانون الحد من التضخم" باعتباره واحدا من أكبر الهبات المقدمة لصناعة النفط والغاز في تاريخ الولايات المتحدة.
في الواقع، خصص "قانون الحد من التضخم" الأموال لتقنيات احتجاز الكربون وتخزينه، وأيضا كثير من الأموال على طاقة الرياح والطاقة الشمسية والمركبات الكهربائية والبنية التحتية للشحن، وكذلك يفعل الاتحاد الأوروبي. من المؤكد أن الغرب يبذل قصارى جهده في التحول في مجال الطاقة، على الرغم من كل التحديات التي ظهرت أخيرا. إذا كان الإنفاق على عمليات التنقيب الجديدة يحدث في هذا السياق، فلابد أن يكون هناك سبب وجيه للغاية لذلك، وهذا السبب ليس الأرباح القياسية التي حققتها شركات النفط والغاز العام الماضي. الأرباح جزء من السبب وليست كله. الأمر برمته يتعلق بأمن إمدادات الطاقة.
إن أزمة الطاقة التي دفعت أسعار الغاز الأوروبية في العام الماضي إلى مستويات قياسية، كانت سببا في تذكير كثير من الحكومات التي تبنت هذه المرحلة الانتقالية بأن هذه المرحلة لا تعمل حقا على تعزيز أمن الطاقة. يمكن أن يحدث ذلك، في مرحلة ما، لكن ذلك سيستغرق وقتا طويلا، ومزيدا من الاستثمار، وحل عديد من المشكلات الرئيسة المتعلقة بالرياح، الطاقة الشمسية والمركبات الكهربائية. ولكن مصادر الطاقة الوحيدة التي توفر أمن الطاقة في الوقت الحالي هي مصادر الطاقة الهيدروكربونية.
لم يكن دعاة التحول هم الوحيدون الذين تم تذكيرهم بهذه الحقيقة. ربما تكون صناعة النفط والغاز نفسها قد نسيت هذه الحقيقة مؤقتا وتلقت دعوة للاستيقاظ في العام الماضي. والآن، فإن الإنفاق آخذ في الارتفاع. وتقوم الصناعة بربطها بتحقيق أهداف تحول الطاقة. بالفعل، هناك حاجة إلى استمرار الاستثمارات في النفط والغاز للتأكد من أن تحول الطاقة يحدث بطريقة متوازنة مع إمدادات آمنة وموثوقة من الطاقة بأسعار معقولة ومنخفضة الكربون. في هذا الجانب، قال مدير الاستكشاف والإنتاج في شركة شل: "سنسهم في هذا التحول المتوازن من خلال تركيز استثماراتنا على المشاريع الأكثر ربحية وتنافسية للكربون".
في الواقع، هناك حقيقة لا يعبر عنها كثيرا أنصار تحول الطاقة، سواء في الأوساط السياسية أو خارجها، وهي حقيقة أن التحول بعيدا عن الهيدروكربونات يعتمد بقوة على تلك الهيدروكربونات نفسها. حيث يتم إنتاج معدات تحول الطاقة باستخدام مواد خام ومعدات تعمل بالوقود الهيدروكربوني. يتم إنتاج المعدات نفسها باستخدام الطاقة من الهيدروكربونات - مثل إنتاج الألواح الشمسية في الصين باستخدام الأفران التي تعمل بالفحم - وهناك مكونات هيدروكربونية في تلك المعدات - مثل شفرات توربينات الرياح والإيبوكسي.
بعبارة أخرى، بدأ الإنفاق على عمليات التنقيب في الانتعاش، وذلك لأن اتجاهات الطلب أظهرت بوضوح تام أن تعطش العالم إلى الهيدروكربونات لا يتراجع، بل في ارتفاع، وثانيا، لأن تحول الطاقة بعيدا عن الهيدروكربونات يعتمد عليها. من المؤكد أن يكون هناك سقف في مكان ما، حيث يتنافس المستثمرون في الفرص الجديدة الناشئة عن جهود تحول الطاقة التي تبذلها الحكومات. ومع ذلك، يبقى أن نرى مدى ارتفاع هذا السقف. وفي نهاية المطاف فإن أمن إمدادات الطاقة سيتفوق دائما على كل شيء آخر، مهما كان ملحا.
نقلا عن الاقتصادية