لا تزال ازمة التضخم تلقي بظلالها على الاقتصاد العالم بالرغم من محاولات التبريد التي تقوم بها السياسات النقدية، الأمر الذي يضيف الأمر تعقداً المخاوف من تباطؤ وتيرة النمو وهو ما يضيف مخاوف أخرى على فاتورة جودة الحياة والرفاهية وصولاً الى السعادة الاقتصادية والتي ترتفع كثيرا إبان فترات الانتعاش والازدهار. هذه الحلقة المفرغة تعيد للذاكرة واحدة من اهم النظريات الاقتصادية التي اسهمت في تحقيق معدلات نمو عالية في مرحلة تاريخية مهمة خلال التاريخ الاقتصادي الحديث وهي النظرية الكينزية لعرّابها القدير جون مينارد كينز، عدة أجراس عالمية تلفت الانتباه الى ان مشكلة التضخم العالمي وأدوات معالجته في الوقت الراهن تلقي بظلالها على الأسواق العالمية وان التداعيات متنوعة في السلع وأسواق الأسهم وسوق العمل والعقارات وخاصة في اكبر ثلاث اقتصاديات في العالم (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين) في حين انخفضت توقعات المستهلكين للتضخم على المدى الطويل (على مدى السنوات الخمس إلى العشر المقبلة) إلى أدنى مستوى منذ يوليو 2021، يتوقع المستهلكون ارتفاع الأسعار بنسبة 2.8٪ سنويا، وفقا لجامعة ميشيغان University of Michigan وعليه تشهد أكبر ثلاثة اقتصادات في العالم- وهي الولايات المتحدة والصين ومنطقة اليورو- تباطؤاً حاداً للنمو وفي ظل هذه الظروف، فإن مجرد وقوع صدمة خفيفة للاقتصاد العالمي خلال العام القادم قد تهوي به في غمرة الركود بيد انه في المقابل اثبت الدولار الأمريكي انه الأقوى حالياً.
ان أحد أبرز التحديات المرحلية التي يواجهها الاقتصاد الأمريكي تتركز حول صافي الدين العام والذي يشكل أكثر من 91 % من الناتج المحلي الإجمالي حتى منتصف العام 2021 وقد يعود بشكل او بآخر ارتفاع معدلات التضخم الى السياسات المالية التوسعية الكبيرة في وقت سابق والتي يقابلها اليوم رفع أسعار الفائدة والتشديد الكمي، ان رفع او خفض معدلات الفائدة يحكمها الاقتصاد السلوكي فسلوك كل من المستهلك والمنتج تتجه هنا الى كيفية اتخاذ القرار لتحقيق أكبر منفعة ممكنة مما يعني ان خطط التمويل وخاصة تمويل الشركات ستخضع لمعايير التقييم من حيث التكلفة والارباح وهذا يقوض من النمو ناهيك عن سلوكيات قرار المستهلك والتي تتشكل في الرغبة والحاجة والقوة الشرائية والوقت المناسب. ومما لا شك فيه فإن تكلفة اسعار الفائدة تشكل عبئاً على المنتجين قبل المستهلكين فالمنتج ايضا يحتاج الى قروضا تمويلية لإنتاج السلع والخدمات وهو ما سيقف عائقاً امام النمو الاقتصادي بل إن الامر قد يفاقم من التضخم على اساس احتساب تلك التكاليف من العملية الانتاجية لتكون المخرجات اعلا سعراً.
بين كينز والفيدرالي علاقة عكسية في فلسفة وفهم التوظيف الكامل والنمو ولكل منهما طريقته وادواته في تجاوز الازمات، استطاع كينز ان ينقذ العالم من ازمة الكساد الكبير فهل يستطيع الفيدرالي تجاوز هذه الازمة؟ في اعتقادي ان الحلول لن تأتي بأداة واحدة فقط على حساب أدوات أخرى ذلك لأنه من الأهمية بمكان خلق آلية للعمل الجماعي وضمن منظومة عالمية متخصصة تسهم في وضع وتحقيق معدلات تضخم مقبولة ومتوازنة مثل استقرار العملات، تسريع وتيرة النمو وتعزيز وتمكين الإنتاج ورفع كفاءته وتوليد الفرص الاستثمارية الجديدة وتمويلها بدلا من التركيز على تقويض الطلب، تتعرض السياسات النقدية للعديد من التحديات مما يؤدي إلى تحولات اقتصادية سريعة مثل تصاعد حالات الأزمات المالية، وانخفاض الثقة في الاقتصادات ، ومن هذه التحديات أيضا تقلبات السوق حينما يتأثر العالم بشكل كبير بسلسلة من الاضطرابات الجيوسياسية أو التحديات الاقتصادية والصحية، مما يؤدي إلى تقلبات في الأسواق، وصعوبة في التعامل مع تلك الاضطرابات، كما أنه وبصرف النظر عن تلك التقلبات إلا أنه قد يحدث مسبقا تداعيات كثيرة على خلفية تلك الأحداث مما يوصلنا في نهاية المطاف إلى خلل عميق في تلك السياسات النقدية عند تطبيقها.
يبدو حينها أن المعالجة بأداة واحدة من خلال السياسات النقدية عمق أيضا إشكالات الديون العامة وبدا واضحا التناقض جليا فيما بين سياسات التيسير الكمي والتشديد الكمي. وعودة إلى تفسير معالجة التضخم كانت الاستجابة محدودة باتجاه واحد وهو رفع أسعار الفائدة على الرغم من توفر الكثير من الأدوات والأفكار التي تشملها النظريات النقدية ومنها على سبيل المثال النظرية الكينزية - نظرية تفضيل السيولة لكينز– والنظرية النقدية الحديثة وغيرها العديد من النظريات التي تفترض أن لديها من القوى ما يقوض معدلات التضخم، من هنا بات معالجة التضخم بأداة واحدة فقط وهي رفع أسعار الفائدة هو من وجهة نظر المشرعين الحل الأمثل عطفا على براهين قطعية سابقة مثل أزمة 2008 فيما تزخر معظم النظريات بالعديد من الأدوات.
إن الدروس المستفادة من فوضى الأزمات المالية عديدة ومن أهمها أنه وبالنظر إلى صناعة أي قرار يتعلق بالسياسات المالية أو النقدية لا بد أن يقابلها قبل ذلك الاعتماد على تحليلات وآراء كل من المنتجين والمستهلكين مباشرة وهي متاحة باعتبار أنها أداة مهمة لقياس التوقعات أولا ثم صناعة القرار المناسب دون النظر إلى الخلف أو دون مد يد العون للماضي القريب كوصفة سحرية من شأنها اعتبار العلاج دليلا قطعيا للشفاء، ومن المهم النظر الى جانب ذلك بالاستفادة من الحلول التي تقدمها المدارس الاقتصادية عبر ادواتها الاقتصادية وأدوات السياسة المالية مثل التنسيق الدولي مع الأسواق الانتاجية ذات العلاقة لمراقبة الأسعار والعمل على كبح جماح ارتفاعها دون الاخلال بمبادئ حريتها، ومواصلة الجهود لتحسين سلاسل الامداد كي تستجيب لأي زيادة في الطلب على أي سلعة مما سيخلق العرض المتوازن وصولا الى توزان قوى العرض والطلب.
أن معركة التضخم اليوم هي الأعنف في التاريخ الاقتصادي كونها تمتلك تداعيات متنوعة على الساحة وهو ما يتطلب أيضا أن تحل التداعيات التي تسببت في ارتفاع التضخم قبل تشخيص العلاج المناسب للتضخم لاحقا، لقد باتت أجندة التضخم حاضرة كل يوم على طاولة البنوك المركزية حول العالم وتتنوع تباعا الأدوات المتبعة لتقويض التضخم بيد أن الملف الحاضر هو رفع أسعار الفائدة فيما يعتبر ذلك كحلقة نقاش متواصلة يصنع من خلالها القرار الوحيد من خلال السياسات النقدية فقط فاليوم يعتبر أسوأ سيناريو للتضخم بالنسبة للبنوك المركزية هو استمرار ارتفاع التضخم بشكل أطول، مما سيسهم بدوره في فقدان الثقة العامة فالواقع يقول إن التضخم المستهدف هو أن يكون بنسبة 2 % على المدى المتوسط، فإذا استمر التضخم في الارتفاع دون أجل محدد فهذا حتما سيلقي بظلاله على الأسعار والأجور، لذا من الضرورة بمكان أن تكون السياسة النقدية واضحة المعالم خاصة وأن معالجة التضخم في وقت سابق كانت موجهة لمعالجة نمط معين التضخم ودون المستوى المستهدف.
المقالة منشورة في النشرة الفصلية التي تصدرها جمعية الاقتصاد السعودية عدد ذي القعدة 1444هـ / يونيو 2023م