توصيات صندوق النقد .. الدواء بالكي

13/06/2023 0
د.صالح السلطان

يمكن القول، وباختصار، إن وصفات وتوصيات صندوق النقد الدولي تشبه المعنى الذي يدل عليه المثل العربي المشهور، آخر الدواء الكي. هو دواء قاس، لذا تكون محاولة استخدامه للعلاج في الأخير. إن تيسر دواء آخر فلا داعي للكي. المشكلة في تيسر وتطبيق دواء آخر. مشكلة يشترك فيها الطرفان المريض والمعالج. لذا فإن كثيرا مما يكتب إعلاميا عن الصندوق ينظر إلى جوانب من الصورة ويجهل أو يتجاهل جوانب، ما ينطبق عليه تشبيه المثل السابق معالجة مشكلات اقتصادية حادة تعانيها دول تجعل منها مريضة اقتصاديا. كيف ولماذا؟ هناك عوامل داخلية وعوامل خارجية. تتركز العوامل الداخلية في اتباع سياسات مالية حكومية ونقدية لا تتناسب مع موارد الدولة، ما يتسبب في اختلالات كبيرة. تظهر هذه الاختلالات في وجود مديونيات حكومية عالية جدا، أي عجز ضخم مزعج في الميزانية والحساب الجاري.

أما العوامل الخارجية فمن أسبابها الصدمات التي تراوح بين الكوارث الطبيعية والتقلبات الكبيرة في أسعار السلع الأولية، خاصة في الدول منخفضة الدخل ذات القدرة المحدودة على تحمل هذه الصدمات. وتزداد المشكلة مع العولمة. والمشكلة يمكن أن تصل إلى دول أخرى غير مريضة اقتصاديا، لكنها تتضرر من أزمات اقتصادية في دول أخرى، الرابط المشترك بين العوامل الداخلية والخارجية زيادة الاختلالات عبر زيادة العجز والمديونية الحكومية. وتصحب الاختلالات القوية رداءة أداء اقتصادي بما يعني تدهورا في النمو الاقتصادي وارتفاعا في العطالة مقرونا بتضخم في الأسعار. وعلاج هذه الأمراض الاقتصادية صعب وثمنه قاس، لذا قلة من الدول تنجح في إصلاح اقتصاداتها، مستغنية عن دواء الكي من الصندوق، تقديم الصندوق الدعم المالي لحكومات الدول المحتاجة مشروط. وجوهر الشروط العمل على خفض العجز. كيف؟ موضوع طويل قابل للشد والجذب. لكن الاشتراط ليس ببدعة من الصندوق فكل الممولين من بنوك وغيرها لهم اشتراطاتهم الشديدة. نقاشات بعثات الصندوق لبلادنا ذات طبيعة مختلفة. وبلادنا -بحمد الله- ليست بحاجة أصلا إلى تمويل من الصندوق، بل العكس أقرب. لكن الصندوق يجري مناقشات سنوية. وهذه المناقشات للعلم تجرى تطبيقا للمادة الرابعة من اتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي التي نصت على إجراء مشاورات ومناقشات ثنائية مع الدول الأعضاء على أساس سنوي عادة. واختتمت حديثا تلك المشاورات للعام الجاري.

ركزت مشاورات ونقاشات الصندوق مع بلادنا على مستهدفات الرؤية بتنويع مصادر الدخل، وتقليل الاعتماد على النفط. كيف؟ يتطلب تحقيق ذلك تطبيق سياسات عدة، وكان بعضها موضع تركيز تقرير الصندوق. إحداها الإبقاء على ضريبة القيمة المضافة، فخفضها يقلل من إيرادات الدولة غير النفطية ويزيد من نسبة الإيرادات النفطية. وبصفة عامة أشاد الصندوق بجهود الحكومة السعودية للفصل بين الإنفاق وتقلبات أسعار النفط "من خلال وضع قاعدة للمالية العامة وتطبيقها بحسم". وتبعا يرى خبراء بعثة الصندوق، ويشاركهم الرأي كثيرون، يرون أن من متطلبات استمرار نجاح هذه الجهود عدة أمور، مثل إبقاء ضريبة القيمة المضافة عند 15 في المائة كحد أدنى، وتقليل الدعم لأسعار البنزين. أما ضريبة القيمة المضافة، فمتوقع العكس أي خفضها عند حصول نمو ملموس في الإيرادات الأخرى غير النفطية، وعلى رأسها عوائد استثمارات صندوق الاستثمارات العامة. وطبعا المؤمل تحقيق نمو لا يصاحبه عجز في الميزانية.

وأما رفع أسعار البنزين، فأرى ربطه بتوفير النقل العام داخل المدن الكبيرة توفيرا يدفع الناس إلى الاعتماد عليه باستخدامه بكثرة. ولعل هذا التوفير في رفع أسعار البنزين يخفف من الزحام المروري في المدن تخفيفا ملموسا، من باب الموضوعية، تطرق تقرير بعثة الصندوق وما فيه من توصيات، لهذا العام تطرق أيضا إلى توسيع نطاق البرامج الاجتماعية بالتوازي مع وتيرة إلغاء دعم الطاقة، والاستمرار في جهود هيئة كفاءة الإنفاق والمشاريع الحكومية، كان هناك عجز في الميزانية العامة للدولة في الأعوام الماضية، باستثناء العام الماضي، حيث تحقق فائض. وتشير بيانات الربع الأول من هذا العام إلى حدوث عجز بسيط. وكان الخوف من تزايد هذا العجز مستقبلا عاملا أساسيا في توصيات لا تعجب الناس. وهذا ليس بغريب. فقد أخبر -سبحانه- عن طبيعتنا نحن البشر تجاه المال، فقال، «وتحبون المال حبا جما». وقال «إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا»، إلا من استثناهم الله -سبحانه- جعلنا الله منهم. ضبط الإنفاق الحكومي، وتقليل اعتماد الميزانية العامة على دخل النفط مطلب. لكن كيف؟ هنا تختلف الأنظار. طبعا التنويع الاقتصادي أداة مهمة للتحقيق. وسبق لصندوق النقد الدولي أن أصدر في 2016 دراسة عنوانها "التنويع الاقتصادي في الدول العربية المصدرة للنفط".

تعمل الدولة باستمرار في مراجعة أعمق لترشيد جانبي الميزانية: الإيرادات والإنفاق. ومن نتائج ذلك كون سياسات الإيرادات وبرامج الإنفاق الحكومية تنتج تصحيحات في الاقتصاد بصورة متدرجة، وليس بهرولة. متوقع مزيد اهتمام من الدولة في الاستثمار وتشغيل الأصول التي يمكن الاعتماد عليها بصورة أكبر، بما يساعد على تخفيف المديونية والعجز والاعتماد على النفط، تبذل الجهود في نمو وتطور قطاعات ونشاطات توفر نموا اقتصاديا ووظائف على المدى البعيد، وتتصف بأنها مستقلة أو شبه مستقلة عن النفط. وهي جهود تتطلب إدراكا فتضحيات. نسأل الله -سبحانه- التوفيق، وأن يغنينا عن الحاجة إلى الصندوق وغيره.

 

 

نقلا عن الاقتصادية