لماذا ازدهر قطاع الرفاهية؟

06/06/2023 1
د. عبدالله الردادي

جمعت السنوات الماضية عدداً لا بأس به من الضغوطات الاقتصادية التي صعَّبت صمود الشركات، فشهد العالم وباء لم يشهده منذ مائة عام، صاحبته أزمات مالية، تلت ذلك اضطرابات جيوسياسية، وموجة تضخم عارمة، ضغطت بشكل رهيب على تكلفة المعيشة. وفي خِضم هذه الأزمات، ازدهر قطاع الرفاهية، هذا القطاع الذي يشمل العلامات التجارية الفارهة، من ملبوسات وحقائب ومجوهرات، وغيرها من السلع التي تجمعها عدة خصائص، أهمها غلاء الثمن، وجودة التصنيع، والتفرّد في التصميم والمظهر. فإلى أي مدى ازدهر قطاع الرفاهية؟ وما هي خصائص هذا القطاع التي جعلت سلوكه يختلف كلياً عن بقية القطاعات، ومكَّنته من أن يتفوق على أقرانه في الأرباح وأداء الأسهم؟

يمكن النظر إلى العامين الماضيين بصفتهما أفضل أعوام قطاع الرفاهية على الإطلاق، فقد ارتفعت قيمة القطاع من نحو 220 مليار دولار أثناء الجائحة إلى أكثر من 350 مليار دولار في الربع الأول من هذا العام. وشهدت نحو 95 في المائة من الشركات في هذا القطاع نمواً في الأرباح، ونما القطاع بأكثر من 15 في المائة عام 2022 وحده، وقد ارتفعت أرباح شركة «هيرمز» 38 في المائة، وزادت قيمة سهمها بنسبة 34 في المائة. وشهدت «ريتشمونت» -وهي الشركة الأم لكثير من العلامات التجارية، مثل «كارتير» و«مون بلان»- ارتفاعاً في الأرباح زاد على 60 في المائة، بينما أصبحت شركة «لويس فيتون» (LMVH) أكبر شركة أوروبية بعد أن تجاوزت قيمتها السوقية مستوى 500 مليار دولار، وزادت أسهمها بنسبة 25 في المائة، لتصل في أبريل (نيسان) الماضي إلى 900 يورو (وهي التي كانت بسعر 80 يورو في عام 2010، ونحو 300 يورو إبان الجائحة).

ويمكن تفسير اختلاف قطاع الرفاهية عن غيره من ناحيتين: الناحية الأولى هي ناحية اقتصادية، فقطاع الرفاهية يُعرف بمرونته وتحمله الصدمات، وهو أحد أقل القطاعات تأثراً بالأزمات الاقتصادية. سبب ذلك أن الأغنياء يشكّلون نسبة كبيرة من عملاء هذا القطاع، وهم بالعادة لا يتأثرون كغيرهم من الطبقتين المتوسطة والفقيرة بالعوامل الاقتصادية، كالتضخم وزيادة معدلات البطالة. بالإضافة إلى ذلك، وخلال السنتين الماضيتين، أثر عدد من العوامل على ازدهار القطاع، منها حزم التحفيز التي أنفقتها الحكومات بعد الجائحة، والتي زادت السيولة خصوصاً لدى الأميركيين، وما يؤكد هذا السبب هو الانخفاض المرحلي لأسهم قطاع الرفاهية الأسبوع الماضي، بعد تأثره بمخاوف انخفاض الإنفاق في الولايات المتحدة. كذلك فقد كان لإنهاء حالة العزل في الصين دور إيجابي في انتعاش مبيعات كثير من الشركات في هذا القطاع، إلا أن هذا التأثير كان في الربع الأول من هذا العام.

أما الناحية الثانية فهي ناحية نفسية، فشراء العلامات التجارية الفارهة يعد من أساليب إظهار المكانة الاجتماعية لدى كثير من الناس، وتحرص عليه الطبقة المتوسطة لهذا السبب، وهذا يشكل أكثر من ربع مبيعات قطاع الرفاهية في الولايات المتحدة، وقد قدّم عالم النفس ماسلو، عام 1943، نموذجاً هرمياً لاحتياجات أو محفزات البشر، أوضح فيه 5 مستويات لطرق معيشتهم، أقل مستوى فيها هو الاكتفاء بالمأكل والمسكن، وأعلاها هو تلبية الاحتياجات النفسية الأكثر تعقيداً، مثل شراء السلع لكونها غالية الثمن، أو لإظهار المكانة أو الحالة الاجتماعية. وفي المستوى الأعلى لا يكون شراء السلع بسبب قيمتها (أي منفعتها مقابل ثمنها) بل بسبب الرضى النفسي الذي تقدمه للمستهلك. وفي زمن المباهاة بالمقتنيات الفاخرة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، كان من المتوقع أن تزدهر صناعة الرفاهية بالتوازي.

وشركات هذا القطاع تدرك جيداً الأثر الاجتماعي لمنتجاتها، فقد سئلت شركة «LMVH» عن مدى إمكانية تجزئة أسهمها لتكون أسعارها في المتناول (وذلك بعد أن وصلت إلى مستوى 900 يورو) وكان الرد بأن أسهم الشركة شبيهة بسلعها، مرتفعة الثمن، وليست في متناول الجميع، ولذلك فإن الشركة لا تنوي تجزئتها. كما أن كثيراً من هذه الشركات تدرك أن انتشارها بشكل كبير ليس في مصلحتها، فجزء من تميزها هو الندرة والتفرد، ولذلك فهي قلَّما تبيع بضائعها بسعر مخفض، وبعضها يتعمد أن يقلل عمليات الإنتاج لخلق شح في الأسواق للمحافظة على ارتفاع الأسعار.

إن ازدهار قطاع الرفاهية هو دليل آخر على أن الأزمات الاقتصادية توفر فرصاً لبعض القطاعات، فكما استفادت الشركات التقنية من الجائحة، وانتكست بعد ذلك لعدم قدرتها على التأقلم مع المستجدات، فإن قطاع الرفاهية ازدهر خلال الجائحة، وها هو قد بدأ في الانحدار بدوره، هذا الانحدار قد لا يتشابه مع ما حدث للشركات التقنية، لاختلاف خصائص وميزات القطاعين، ولكن نمو قطاع الرفاهية في الفترة القادمة برتم السنتين الماضيتين نفسه لا يبدو محتملاً، وهو مع ذلك قطاع واعد يراه المتفائلون رهاناً على رفاهة الشعوب، ويراه المتشائمون دلالة على عدم المساواة بينها.

 

 

نقلا عن الشرق الأوسط