الحوكمة ليست علما جديدا على العالم الإسلامي، هذه الحقيقة التي تبدو كل يوم، وأننا قد وصلنا كعرب إلى مستويات كبيرة ومتقدمة في علم الحوكمة، لولا أننا توقفنا فجأة وبلا سبب واضح عن إبداع وإنتاج الأطر المنظمة لذلك، مع الأسف الشديد إن علم الإدارة كعلم مدرسي وتخصص أكاديمي لم يصل إلى الجامعات حتى خمسينيات القرن الماضي، لذلك ظل التأليف في هذا التخصص ردحا من الزمان محصورا في المؤسسات الأكاديمية الغربية، مع بعض الإنتاج المحدود للمؤسسات الاستشارية المختصة التي نظمت نفسها بعد ذلك في مؤسسات النفع العام غير الربحي، وهي التي تتولى اليوم زمام الأمور في مجال إنتاج الأطر المنظمة للعمل الإداري، والحوكمة، بالطبع هذا جعل منا في العالم العربي خصوصا مجرد متلقين لهذه التوجيهات الغربية، نظن أن هذا العلم بكل تفاصيله إنما هو بدعية غربية متكاملة، لكن الحق أن العرب قد أبدعوا في ذلك كثيرا، لكننا، وهنا أكرر، لأسباب مجهولة عندي قد توقفنا عن الكتابة تماما إلا في سياق تاريخي خال من الفلسفة والتفسير التخصصي المناسب.
لماذا هذا المقال؟
أود التأكيد على مقال سابق بعنوان "الحوكمة في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور"، وفيه تطرقت إلى دور ديوان البريد، وكيف يمارس هذا الديوان دور الرقابة الشاملة على الأداء، وكيف أن نظام هذا الديوان كان يتضمن التقارير التي ترفع بانتظام للخليفة، وقد بينت خلال المقال "أنه فيما قرأت ليس له ممارسات واضحة بشأن المراجعة المالية"، وهذه النتيجة مقلقة نوعا ما، ذلك أن احتمالات التلاعب في السجلات "الدواوين" كان ممكنا بل الاحتمال فيها واسع، وأن الخلافة الإسلامية لم تكن ساذجة، بمعنى أن تتجاهل احتمالية وقوع تلاعب في السجلات الخاصة بالخراج والجباية، وفي دور سك العملة، كما سبق أن تحدثت في مقال بعنوان "رحلة النقد والمحاسبة في العهد النبوي وما بعده"، بأن الرقابة على سك العملة كانت موجودة وأن وليا قد اختبر الوزن فوجده ناقصا فأمر بضرب كل صانع 1000 سوط، وهذا أيضا من ملامح الرقابة النقدية في ذلك الوقت، لذلك كان لا بد من توسيع القراءة بشأن المراجعة في العهد الإسلامي، وقد وجدت فعلا أن الخليفة المهدي قد تنبه لذلك، حيث أنشأ ديوانا بمسمى "زمام"، وهذا له هيكل فريد من نوعه لم يكن على أي مثال سابق من الدواوين، فهذا الديوان "صغير" نسبيا، وينشأ في كل ديوان من دواوين الخلافة، وله دور الرقابة المالية ومتابعة الحسابات والتصرفات المالية كافة لذلك الديوان، وقد جاء في كتاب "الفرج بعد الشدة" للقاضي التنوخي. أنه "لما استقرت الأمور في أيام المهدي، قلد الدواوين عمر بن بزيع. وهذا يعني أنه كلفه برئاسة الوزراء، وقد تفكر "أي عمر بن بزيع" فوجد أنه لا يمكن أن يضبطها، لتعددها، واتساع أعمالها، فاتخذ دواوين الأزمة. وهنا يظهر بوضوح أنها كانت دواوين للأزمة، وليست ديوانا واحدا. وهنا يظهر تساؤل عن ماهية دواوين الأزمة هذه؟
يقول صاحب كتاب "الفرج بعد الشدة" "تحقيق عبود الشالجي"، إنه كان لكل ديوان رجل، أي شخص واحد فقط، وجاء في الكتاب ما نصه "فأصبح لكل ديوان من دواوين الأصول، ديوان زمام يراقبه، ويشرف على أعماله" ثم اتخذ المهدي ديوانا، أسماه: ديوان زمام الأزمة، وأنه كان يراقب ويشرف على دواوين الأزمة. على هذا فإن ديوان الأزمة كان يراقب التصرفات المالية ويراجع الحسابات أولا بأول مع صاحب الديوان، فهو موجود في ديوان الجند، وديوان الخراج، وديوان النفقات، وفي كل الدواوين، وله مراجعة ما تم إثباته في هذه الدواوين، وبالتأكيد أن كل ديوان من الأزمة كان يرتبط برئيس مجلس الوزراء "عمر بن بزيع في عهد المهدي"، فهذا يدل على أنه يشرف على الأعمال ذات الطبيعة المتعلقة بتنفيذ المهام المالية والإدارية المعتادة، وقد وظفه ابن بزيع من أجل تقديم تأكيدات بشأن تنفيذ ما يجب وفقا للتعليمات، وقد تم إنشاء زمام الأزمة من أجل جمع كل التقارير وتحليلها والرفع بها لرئيس مجلس الوزراء، وهنا يتضح الفرق الأساس بين دور ديوان البريد الذي يتبع الخليفة مباشرة ويراقب كل أعمال الوزراء "الدواوين كافة" وبين أعمال ديوان الأزمة الذي يرتبط برئيس مجلس الوزراء ويدفع التقارير له، والسؤال هنا، عن الاستقلال، بمعنى هل ديوان البريد خاضع لإشراف رئيس الوزراء؟ لا أظن ذلك، ولا أظن أيضا أن لديوان البريد إشرافا على الأزمة، لا ارتباط بينهما، كل له مجاله المختلف، وبمعنى آخر، فإن الأدوار الرقابية لا تراقب بعضها بعضا، ولا يرتبط بعضها ببعض.
نقلا عن الاقتصادية