اقتصاد التجربة

01/05/2023 0
د. عبدالله الردادي

يعد اقتصاد التجربة أحد المفاهيم الحديثة نسبياً، الذي قدمه كل من «جوزيف باين» و «جيمس جيلمور» في نهاية التسعينات الميلادية. ويناقش كل من «باين» و «جيلمور» في كتابهما الصادر عام 1999 تطور القيمة الاقتصادية عبر العصور، فبعد أن كانت الزراعة هي الغالبة على الاقتصاد العالمي، جاءت الصناعة لتهيمن على اقتصاد العالم وتشكل القيمة الأغلب من ناتج الاقتصاد العالمي، ولكن الصناعة لم تستمر المهيمن الأكبر على الاقتصاد، ولا من ناحية عدد العاملين في الصناعة حول العالم. وجاء اقتصاد الخدمات ليكون المسيطر على الاقتصاد، وتدريجياً تحولت الخدمات نفسها إلى سلع، وتحولت المنافسة فيها إلى منافسة بالأسعار، تماماً كما الحال في السلع سابقاً. وعندما تساوت هذه السلع في القيمة المقدّمة، وفي الأسعار، كان من المهم وجود قيمة إضافية تعطي لهذه الخدمات التميز، وكانت هذه القيمة هي تجربة العميل.

ويعرف اقتصاد التجربة على أنه الاقتصاد التي تباع فيه السلع أو الخدمات، وتُسعّر من خلال التأثير الذي تحدثه على حياة الناس. هذه التجارب تعامل معاملة مشابهة تماماً للسلع أو المنتج، أي أنه باختلاف التجربة، قد تتفاوت الأسعار للسلع أو الخدمات. وقد يكون المثال على ذلك هو المقاهي، حيث تبيع المقاهي منتجات متشابهة، فهي ذات القهوة، التي تستخدم مكائن متشابهة وتنتج مشروبات متقاربة إلى حد كبير، فما الذي يجعل الناس تقبل على بعض المقاهي وتترك بعضها الآخر حتى مع استحسان قهوتها؟ إنها بكل تأكيد تجربة العميل. ولتوضيح الفكرة، يمكن النظر إلى مقاهي «ستاربكس»، التي توسعت توسعاً انفجارياً خلال العقدين الأخيرين، وكان أحد أهم أسباب ذلك هو ابتكار مفهوم «المكان الثالث»، حيث ابتكرت الشركة مفهوم المقهى الذي يمكن العمل وتناول القهوة فيه، فهو ليس منزلاً، ولا بمقر عمل. الإقبال على سلسلة مقاهي «ستاربكس» هو دليل على التعطش لتجربة جديدة، فأصبح الناس يحملون كتبهم أو حواسيبهم لتناول القهوة في «ستاربكس» والعمل أو القراءة هناك.

هذا الابتكار ينطبق على قطاع الأغذية بشكل عام، فكثير من المطاعم اليوم لا تتميز بمأكولاتها، على الرغم من أنها السلعة الأساسية للمطاعم، ولكنها تتميز بالبيئة الداخلية للمطاعم، وهذا المفهوم موجود للمطاعم تحديداً منذ عشرات السنين. ويلاحظ أن قيمة الأكل في هذه المطاعم مرتفعة مقارنة بغيرها من المطاعم، على الرغم من أن المواد الأساسية للأكل متشابهة، وأسعار اليد العاملة متقاربة كذلك. ولكن الفارق بين المطاعم هو التجربة، ومن يقيّم هذه التجربة هو العميل بنفسه، وأثر هذا التقييم يتضح جلياً في المطاعم حيث لا يستمر كثير من المطاعم الفاخرة لوقت طويل بسبب ضعف التجربة التي تقدمها للعميل، وهي الذكرى التي تبقى في ذهن العميل بعد مغادرته المطعم.

ومفهوم اقتصاد التجربة يبرز تطبيقه في قطاعات الترفيه والسياحة بشكل جوهري، فالسائح يبحث عن ذكرى يتحدث فيها عند عودته لبلاده. ويركز كثير من الدول على المعالم السياحية التي قد لا تكون موجودة في أماكن أخرى للبحث عن التميز عن الدول الأخرى، ولكنها قد تغفل التجربة التي يمر بها السائح. فزيارة معلم سياحي متفرّد قد يُنسى من الذاكرة إن لم تكن التجربة بحد ذاتها متميزة. ولتقريب هذا المفهوم، يمكن التفكير بحضور مباراة في الملعب بين فريقين شهيرين في أحد أكبر وأجمل ملاعب العالم، ولكن هذا الملعب فارغ من الجمهور، هل ستكون هذه التجربة مميزة؟ بالطبع لا، ومن يذكر النقل التلفزيوني لمباريات فترة الجائحة يذكر كيف اضطرت القنوات إلى إدخال صوت مفتعل للجمهور لإضافة الحماسة إلى المباريات التي كانت تثير الملل بسبب فراغ الملعب من الجمهور.

إن اقتصاد التجربة هو مفهوم يستدعي التأمل، فكما أن تميز السلع والخدمات يعطي قيمة اقتصادية ويزيد من المبيعات والأرباح للشركات والحكومات، فإن التجارب تعطي قيمة إضافية لهذه الخدمات. هذه التجارب، التي عادة تعطي ذكريات لا تنسى للعملاء، وتعطيها المفاجأة التي قد يتحدثون عنها لسنوات، تؤثر كثيراً في كثير من القطاعات، ولا سيما القطاعات السياحية التي تشهد منافسة شرسة، وتحتاج إلى الابتكار لتحقق التميز والعائد المرجو منها.

 

نقلا عن الشرق الأوسط