الحوكمة في عهد أبي جعفر المنصور

23/04/2023 4
د. محمد آل عباس

جاء في تاريخ الطبري أن الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور قال لجلسائه يوما، "ما كان أحوجني إلى أن يكون على بابي أربعة نفر لا يكون على بابي أعف منهم، قيل له يا أمير المؤمنين من هم، قال هم أركان الملك ولا يصلح الملك إلا بهم كما أن السرير لا يصلح إلا بأربع قوائم، أما أحدهم فقاض لا تأخذه في الله لومة لائم، والآخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوى، والثالث صاحب خراج يستقصي ولا يظلم الرعية فإني عن ظلمها غني، والرابع ثم عض على أصبعه السبابة ثلاث مرات يقول في كل مرة آه آه قيل له ومن هو يا أمير المؤمنين قال صاحب بريد يكتب بخبر هؤلاء...".

لقد ناقشت كثير من الأبحاث، دور ديوان البريد الأول في العصور الإسلامية، خاصة في العصر العباسي لأنه كان فترة من الازدهار السياسي والاقتصادي والفكري على نحو لم يسبق له مثيل، ويكاد جميع الباحثين الذين رجعت إليهم يجمعون على أن ديوان البريد كان أهم دواوين الدولة التي تساعد على تنفيذ ما رسمت الدولة من سياسات، حيث كانت فروع هذا الديوان ترفع التقارير إلى الديوان المركزي في بغداد، لاتخاذ ما يلزم من الإجراءات، ومع ذلك فإن الأبحاث تعد أعمال ديوان البريد في ذلك العصر كأعمال الاستخبارات، وهذا وإن كان صحيحا فإنه لم يكن شاملا، بل كان يؤدي أدوارا أخرى تتعلق بالتفتيش الإداري والمحاسبي، والدور الإعلامي، والدور الذي يتعلق بمراقبة الحالة الاقتصادية، فهو أشبه اليوم بما يمكن وصفه بالمراجعة الشاملة للأداء، وأشار بعض الباحثين إلى أن نفقات هذا الديوان بلغت في عهد هشام بن عبد الملك أربعة ملايين درهم. إذ إن ديوان البريد كان معروفا ومعلنا، وله أصحابه المعروفون، وله أعداد كبيرة من الموظفين، منهم المسؤول عن تتبع أعمال الولاة والقضاة، ومنهم من هو مسؤول عن تتبع حركة أموال الدولة والخراج، ومنهم من هو مسؤول عن تتبع حالة الأسواق، وهو معني أيضا برفع التقارير الدورية للمركز الرئيس الذي يقوم هناك بتحليلها ودراستها وتلخيصها وتوزيعها، فهو يراقب علنا ويتابع كل ما يحدث في الدولة من قضايا، وكدليل على ذلك ما وجدته في بعض الأبحاث عما حصل مع صاحب بريد الري "غربي إيران" الذي كان يرفع التقارير عن واليها، وهو المهدى بن المنصور "ابن الخليفة المنصور"، وأنه كان يجزل العطاء لمن يقوم بمدحه من الشعراء، ومنح أحد الشعراء وهو المؤمل "20 ألف ألف درهم"، وعندما وصل التقرير إلى الخليفة المنصور كأنه استكثرها، فأمر برصد الطرق والبحث عن المؤمل هذا حتى قبض عليه وتم إرساله إلى الخليفة الذي استرد منه ذلك المبلغ الكبير.

كما جاء في تاريخ الطبري أيضا أن المنصور ولى رجلا من العرب حضرموت، فكتب إليه وإلى البريد أنه يكثر الخروج في طلب الصيد وقد أعد لذلك عدة ضخمة فعزله. وقد ورد في كتاب الخراج وصناعة الكتابة لقدامة بن جعفر البغدادي (337هـ)، من أن وظائف ديوان البريد قد بلغت حد التعرف على عمارة الأرض وحالها، ومراقبة دار الضرب "سك العملة" وما يجرى عليها، ومراقبة ديوان المؤن "المستودعات"، ولقد كان هناك ما يشبه قواعد للأخلاق فيمن يعمل في وظيفة البريد، من أهمها الصدق، والأمانة، والنزاهة، والكفاية، والسرية في العمل. و كان الاستقلال أهم مبادئ العمل، ولذلك تم ربط رئيس ديوان البريد بالخليفة مباشرة، وأكد الخلفاء بأنه لا حاجب يمنع البريد عن الدخول على الخليفة في أي وقت، كما لا سلطان لأحد عليه، فلا يتم تعيينه ولا عزله إلا بأمر الخليفة نفسه، وهذا ما يمنح أصحاب البريد استقلالا من جميع الجوانب المادية والمعنوي.

ليس هذا المقال بحثا في علم الحوكمة في العصر العباسي الأول، بل فقط إشارات وقراءة سريعة توضح مفهوم الحوكمة، وأنه ليس بجديد علينا تماما، بل هو قديم قدم الدولة الإسلامية، لكننا فقدناه ولم نطوره كما أنه لا يسلم من تجديد وإعادة ترتيب، وفي العصور الإسلامية كانت عناصر الحوكمة جلية وواضحة، فالخطوط الثلاثة واضحة، فهناك الإدارة التنفيذية من يتم تعيينهم في الدواوين المختلفة "الوزارات"، ديوان الجند، أو ديوان النفقات، أو ديوان بيت المال، وهناك آليات رقابية واضحة، تبدأ بالإجراءات التي يجب على هذه الدواوين الالتزام بها، ومنها من له نص فقهي واضح، ومنها ما له توجيهات من الخليفة الذي يرسم السياسات العامة، وكان هناك خط رقابي من خلال ديوان البريد، لكنه فيما قرأت خط رقابي على الأداء وليست له ممارسات واضحة بشأن المراجعة المالية، لكن قد لا يخلو أمر ديوان البريد الذي معه هذه الصلاحيات الواسعة، من أن يقوم بمراجعة أعمال بيت المال، كما أن هناك نظاما واضحا للتقارير وتلخيصها والرفع بها للخليفة، وفوق هذا كله هناك قواعد واضحة للسلوك، فقد ورد في أحد المراجع أن أحد الولاة قام بارتكاب أعمال مما يغضب الخليفة المنصور، وقد علم بها موظف ديوان البريد وناقشه فيها، وطلب الوالي من موظف البريد عدم إرسالها إلى الخليفة، لكنه رفض ذلك، وهذا له دلالات واضحة في علم المراجعة اليوم من مناقشه الجهات بشأن المخالفات قبل الرفع بها.

مع هذا العيد الجميل لهذه الأمة العريقة، التي لها تاريخ طويل في جميع العلوم، ومنها علم الحوكمة، الذي لا يكفي معه أن نسقط الواقع على أحداث الماضي، لكن أن نستكشف آليات قد لا تكون مطبقة اليوم، وهي في غاية الأهمية. كل عام وأنتم بخير.

 

نقلا عن الاقتصادية