الاحتياطي الفيدرالي .. هل بدأ الطريق «الوعر الصعب»؟

13/03/2023 0
عبد الحميد العمري

لطالما اقترنت تصريحات جيروم باول رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، منذ بدأت إجراءات الاحتياطي الفيدرالي تبني سياسات التشديد النقدي، والعمليات المتسارعة برفع معدل الفائدة على الدولار، استهدافا لكبح جماح التضخم الذي وصل إلى أعلى مستوياته منذ أكثر من 40 عاما مضى في الولايات المتحدة، بأن تلك المساعي من الفيدرالي ستقترن بآثار عكسية على الاقتصاد، قد تدخله ركودا وفقدانا للوظائف "ارتفاع البطالة"، وعديد من التداعيات العكسية التي سيشهدها مسار المواجهة الحازمة مع التضخم، لخصها بقوله، إنه طريق سيتم بقدر عال من الوعرة والصعوبة!

هل تنبأ الاحتياطي الفيدرالي بالإصابات الفادحة التي بدأت تفتت قلعة القطاع التمويلي، كان أولى ضحاياها نهاية الأسبوع الماضي "سيليكون فالي بنك"؟ واحتمالات أن تتساقط بنوك أخرى مماثلة له في الحجم؟ ولم يشأ جيروم باول طوال عام مضى الإشارة بعبارة صريحة إلى ما قد تصطدم به البنوك من أزمات، قد تصل إلى حدود الإفلاس! وفضل أن يخبئها وغيرها من الآثار العكسية الشديدة في عبارته المكررة كثيرا "طريق وعر وصعب"، وهي آثار تتجاوز ما سبق أن صرح به من ركود محتمل للاقتصاد، وارتفاع معدلات البطالة، وتقلبات حادة ستموج في الأسواق عموما في الولايات المتحدة وخارجها "سندات، أسهم، عقار، إلخ"، عدا ما صرح بخصوص "الدين العام الأمريكي"، والآثار العكسية لرفع معدل الفائدة على تكاليف الاقتراض في الولايات المتحدة، المرشحة للارتفاع وزيادة الأعباء على الخزانة الأمريكية، مؤكدا أن تكاليف الفوائد على وزارة الخزانة ليس لها وزن في قرارات الاحتياطي الفيدرالي المتعلقة بالسياسة النقدية، وأنه مسؤول فقط أمام الكونجرس عن تحقيق أقصى قدر من التوظيف واستقرار الأسعار، حسبما كلف به الاحتياطي الفيدرالي من قبل الكونجرس.

على جانب تكاليف خدمة "الدين العام الأمريكي"، أظهرت بيانات الخزانة الأمريكية ارتفاع تلك التكاليف إلى مستوى قياسي غير مسبوق في تاريخها، بوصولها إلى نحو 787 مليار دولار خلال 2022، ووصلت إلى نحو 307 مليارات دولار من بداية العام المالي الجاري حتى تاريخه، مسجلة نموا قياسيا وصلت نسبته إلى 29.0 في المائة مقارنة بـحجمها خلال الفترة تفسها من العام الماضي، وكان قد وصل حجمها خلال شباط (فبراير) الماضي فقط إلى نحو 46 مليار دولار، في الوقت ذاته الذي اتسع عجز موازنة الحكومة الفيدرالية الأمريكية خلال فبراير الماضي بنحو 262 مليار دولار، ما أدى بدوره إلى ارتفاع العجز المالي خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام المالي الجاري، إلى نحو 723 مليار دولار.

معلوم أن صدام الاحتياطي الفيدرالي مع التضخم المرتفع في الولايات المتحدة، بدأ متأخرا عن موعده المستحق بنحو 11 شهرا، أي أنه لم يبدأ إلا مع نهاية الربع الأول من العام الماضي، حيث أخطأ خطأ فادحا وتاريخيا في تقديراته للتضخم بوصفه على أنه "تضخم عابر ومؤقت" كان قد أطل برأسه منذ مطلع 2021، واتخذ مسارا متسارعا طوال نحو عام مضى، قفز بمعدل الفائدة من مستويات مقاربة للصفر، إلى أن وصل بها في المتوسط إلى 4.75 في المائة.

قطع الاحتياطي الفيدرالي جزءا من طريق كبح التضخم، ويقف الآن على مفترق طرق مخيف! بدأت تظهر على جوانبه آثار بالغة الضرر لا يعلم منتهى تداعياتها، بإفلاس "سيليكون فالي بنك"، وقبل ذلك ارتفاع تكلفة خدمة الدين العام الأمريكي البالغ الضخامة "31.4 تريليون دولار"، وينتظر موافقة الكونجرس على رفع سقفه القانوني قبل منتصف العام الجاري، بعد توافق أكبر حزبين فيه على مطالب الحزب الجمهوري بوعود الإدارة الأمريكية الراهنة تستهدف فرض قيود على حدود الإنفاق في المستقبل، مقابل موافقته على رفع السقف القانوني للاستدانة.

هل يكمل الاحتياطي الفيدرالي طريق حربه على التضخم؟ سواء بالوتيرة نفسها السابقة أو بأقل منها؟ أم يتوقف عند حصاد سياسته المتشددة الآن؟ وهل سيستمر التضخم في التراجع وصولا إلى المستهدف النهائي للاحتياطي الفيدرالي بكبحه إلى 2.0 في المائة فما دون؟ وماذا يتوقع أن ينتج عنه هذا الصدام مع التضخم من آثار عكسية تتجاوز إفلاس "سيليكون فالي بنك" إلى بنوك وشركات أكبر وأكثر؟ عدا ما ستكابده الخزانة الأمريكية من تكاليف مرتفعة لخدمة الدين العام الهائل؟ وهل قد يتراجع الاحتياطي الفيدرالي خطوات إلى الوراء تجنبا للتداعيات العكسية المقلقة جدا؟ والسماح بعودة التضخم إلى الارتفاع مجددا، ليعود مستقبلا إلى مواجهته من جديد، ويفقد بذلك الاحتياطي الفيدرالي جزءا كبيرا من الثقة به؟ وهو الأمر السلبي الذي لا تقل مخاطره وآثاره عن مخاطر فقدان ثقة المستثمرين والمجتمع بالأسواق والبنوك؟ إنها تحديات ومخاطر جسيمة جدا، أكبر بكثير من مجرد حصرها في كبسولة "وعر وصعب".

يتفق أغلبية الخبراء والمختصين اقتصاديا وماليا على أن "الفوضى" الراهنة، ليست على الإطلاق وليدة الجائحة العالمية كوفيد - 19 على الرغم من ثقل وطأتها، بل تمتد مكوناتها إلى فترة الأزمة المالية العالمية 2008، وما سبق تلك الأزمة من إرهاصات اكتظت بتجاوزات وأخطاء جسيمة تورط النظام المالي الأمريكي فيها "أجهزة فيدرالية وبنوك وشركات استثمارية"، كانت السمة الأبرز للمواجهات مع الأزمات المتتالية طوال تلك الفترة الطويلة، ممثلة في إنقاذ ما يمكن إنقاذه مهما كلف الأمر، وتأجيل "دفع" أثمان تلك التجاوزات والأخطاء إلى المستقبل المجهول! وهكذا مضى الحال إلى أن اكتظ المشهد الاقتصادي والمالي الأمريكي بالنتائج العكسية الوخيمة والضخمة!

هل سيكمل الاحتياطي الفيدرالي طريقه الذي وصفه بالوعر الصعب؟ أم يتراجع ويتحول إلى "رجل إطفاء" لحرائق مفاجئة؟ وفي كلتا الحالتين سيكون الاحتياطي الفيدرالي ومعه بقية الأجهزة الفيدرالية والبنوك والشركات عموما في المستقبل، الذي لن يكون بعيدا كالسابق، أمام حرائق مالية واقتصادية لا قبل لهم بها، ولا خيارات مفتوحة تتيح لهم الفرار من مواجهتها بأي حال من الأحوال! ستكون الأسابيع والأشهر القليلة القليلة حاسمة وتاريخية للمجلس الراهن للاحتياطي الفيدرالي، وليس أمام العالم إلا ترقب ومتابعة ماذا وكيف سيتعامل مع تداعيات هذه المرحلة الحرجة جدا في تاريخ الاقتصادين الأمريكي والعالمي أيضا.

 

نقلا عن الاقتصادية