الأصل أن خفض الأسعار يصب في مصلحة المشتري. ويفهم من كونه الأصل أنه لا يصلح للتعميم. انخفاض الأسعار بسبب التنافس يحقق مصلحة المشتري.
لكن قد يكون المتسبب في انخفاض الأسعار ليس التنافس، وإنما السعي إلى مزيد هيمنة على السوق.
وفي الأغلب لفترة مؤقتة، مرتبطة بظروف بعينها. تنتهي بأسعار أعلى. والشرح التالي يوضح ما أقصد.
تقوم أحيانا موجة تخفيضات في الأسعار، بصورة كما لو أنها حرب بين المخفضين.
في المقابل، تسعى جهات في الدول إلى التدخل. قد يساء فهم هذا التدخل، على أساس وهم أن تخفيضات الأسعار تصب دوما في مصلحة المستهلك. قد تصب التخفيضات في بائعين على حساب بائعين آخرين، وليس بهدف المصلحة العامة في كل الأحوال. وما أكثر ما يساء فهم وتفسير سلوكيات اقتصادية.
هناك ما يسمى البيع بأقل من سعر التكلفة، ويشمل سعر التكلفة تحقيق عائد على رأس المال مماثل أو مقارب للعائد المتوقع تحقيقه من رأس المال لو استثمر في ودائع بنكية ونحوها. بمعنى آخر، سعر التكلفة يشمل تحقيق أرباح عادية بسيطة.
إذا هيمنت شركة أو شركات قليلة على حصة كبيرة من الإنتاج، فإن هناك حافزا قويا لدى هذه الشركة "أو هذه الشركات" في أن تسعى إلى تحقيق مزيد هيمنة ومن ثم أرباح. ومن وسائلها للوصول إلى هذا الهدف أن تلجأ إلى سياسة إغراق السوق بما يؤدي إلى خسارة منتجين آخرين وخروجهم من السوق، وحينها تصفو السوق للشركة أو الشركات المتواطئة، فتتحكم في الأسعار أو الكميات.
وفي الأغلب تتدخل الحكومات بصور ومستويات متعددة، بهدف المنع أو الحد من البيع بسعر أقل من سعر التكلفة.
نشهد على الساحة العالمية حرب أسعار بين شركات بعينها. هل هي ممارسة من قبيل المنافسة الشريفة أم من قبيل إغراق السوق بالتواطؤ بين الشركات الكبرى بغرض إخراج المنتجين الصغار من السوق؟ يحتمل ويحتمل، اعتمادا على تفاصيل موثقة كثيرة لا بد من العلم بها، قبل إعطاء رأي. من الواجب توخي الدقة بدلا من التسرع في الاتهام.
عبر الأعوام، هناك قصص كثيرة عن أحداث تواطؤ مشهورة، لكن برفع الأسعار وليس خفضها.
من هذه القصص تآمر مديري شركات أدوات كهربائية أمريكية كبرى مثل "جنرال إلكتريك" و"وستنجهاوس"، مطلع الستينيات من القرن الميلادي الماضي، على رفع الأسعار السائدة، وقاموا بتعمية خطواتهم بأعمال تشبه أعمال الجاسوسية، حيث الالتقاء سرا في أكواخ بعيدة. حكم على هذه الشركات بدفع تعويضات للمستهلكين المتضررين من رفع الأسعار، خلاف أحكام أخرى ذات طابع جنائي ضد المتورطين.
ماذا عن العكس، أي رفع الأسعار. الأصل أنه غير مرغوب، لكنه قد يفيد على المدى البعيد خاصة.
قبل أعوام، شهدت أسعار حديد البناء ارتفاعات بعد موجة انخفاضات. وأهم سبب في ارتفاع أسعار الحديد قرار الصين بخفض الإنتاج لرفع الأسعار.
لماذا قررت الصين ذلك؟ لأن منتجين صينيين كثيرين عانوا الخسارة مع تزايد الإنتاج وانخفاض الأسعار في فترة خلت. والمشكلة موجودة في سلع أخرى. لنأخذ خفض "أوبك+" لإنتاج النفط. هناك مبررات وفوائد للخفض فارتفاع سعر النفط.
كانت الفكرة قديما أن انخفاض أسعار النفط مفيد للاقتصاد العالمي ككل. مثلا أصبح الناس يشترون البنزين بسعر أرخص.
لكن فكرة أنه مفيد للاقتصاد العالمي لم تصمد، بل أصبحت موضع نقاش واعتراض. مثلا، لوحظ أن أسعار أسواق الأسهم الكبرى في العالم تتحرك نزولا مع انخفاض أسعار النفط، وكان يتوقع العكس. كيف؟
ارتفاع أسعار النفط يعمل على ترشيد الاستهلاك، وخروج كميات من الأموال من الدول المستوردة الغربية إلى دول أخرى. وكلاهما الترشيد والخروج مفيدان للاقتصاد العالمي. كما سيعمل رفع الأسعار على تحرك أموال تجاه الاستثمار في قطاعات الطاقة من نفط وغيره. وهذه الاستثمارات تعاني انخفاضا.
سكان "أوبك" أقلية بالنسبة إلى العالم. لذا فإن جزءا مما تحصل عليه الدول المصدرة للنفط يدخل النظام المالي العالمي.
وهذا النظام يوفر أموالا أكثر للإقراض و/أو الاستثمار على المستوى العالمي. من جهة أخرى، زيادة المعروض من الأموال ستسهم في خفض معدلات الفائدة. المحصلة آثار إيجابية في النمو الاقتصادي العالمي.
وجود الارتباط غير المتوقع بين أسعار النفط وأسعار الأسهم تسببت فيه السياسات النقدية عالميا. عملت في أعوام مضت كبرى البنوك المركزية على خفض الفائدة، الذي تزامن مع انخفاض أسعار النفط، توقعا لتحفيز النمو اقتصاد العالم.
انخفضت أسعار النفط ومعدلات الفائدة كثيرا في أعوام مضت. ومعهما شهد الاقتصاد العالمي انكماشا. في المقابل، تزامن مع ارتفاع أسعار النفط في الأعوام الأخيرة ارتفاع أسعار الأصول كالأسهم. وتحسن نمو الاقتصاد العالمي.
ولمزيد توضيح، مع تزايد التداخل وما يشبه التكامل في النظام المالي العالمي، ادخار الدول النفطية يجد سبيله إلى الدول المستهلكة، ومن ثم يسهم في نموها. ويلاحظ أن نمو أسعار الأصول والاقتصادات متقارب ولم يتضرر من ارتفاع أسعار النفط.
الوضع كان مختلفا نوعا ما في السابق، حيث شهدت أسعار النفط زيادات حادة في عقد السبعينيات من القرن الميلادي الماضي، لكن النظام المالي العالمي لم يكن متكاملا متداخلا بالصورة التي رأيناها خلال الأعوام العشرة الماضية.
لاحظ باحثون أن الفائض في الادخار الذي تحرك خارج حدود دوله، ارتفع نحو خمس مرات خلال الأعوام الـ15 الماضية، ما دفع إلى ارتفاع أسعار الأصول عالميا. طبعا الادخار يدعم النمو الاقتصادي. لكن هناك الجانب الآخر للقصة، فالكمال لله سبحانه. صنع نوع أو درجة من الفقاعة في أسعار سلع. وبالله التوفيق.
نقلا عن الاقتصادية