لا يكاد يخلو نقاش إلا وتسمع تغير النموذج، لكن القليل سمع بمؤلف هذا المصطلح توماس كوون، وكتابه الذي يعد من أهم كتب القرن الـ 20 The structure of Scientific Revloutions ــ بنية أو تشكيل الثورات العلمية في 1962. كتاب كوون أستاذ الفيزياء في هارفارد وبيركلي استطاع تغيير التفكير عن طبيعة التقدم العلمي. العلم أهم عملية منظمة لفهم العالم، ولذلك لكوون دور رئيس في تفكير الجميع حول "الطريقة العلمية". ربما أرجع إلى الكتاب مرة أخرى، لكن في العمود سأكتفي ببعض النواحي المهمة في طرح كوون. قبله كانت النظرة العلمية لتفسير تاريخ العلم، بأنه تقدم تدريجي لفهم العالم الطبيعي بهدف الوصول إلى "الحقيقة" أو على الأقل التقريب لها. تفسير كوون للتطور العلمي كان مختلفا.
فبدلا من مسار مستمر يعتمد على سلم تدرجي تراكمي رأى كوون، أن كسر السلم والقفازات والإعداد لمرحلة جديدة هي طبيعة تاريخ التطور العلمي. فمسار البحث العلمي يتغير من الحالة العادية إلى الثورية. يغلب على الحالة الثورية اضطراب وعدم اليقين، خاصة للمختصين في مجال علمي معين. حدث ذلك مع تطور الكهرباء والانتقال من نظريات نيوتن للحركة، إلى فيزياء الأجسام المتناهية الصغر. بينما يغلب على الحالة العادية بعد قبول التغير الثوري مرحلة العلم العادي التي تتميز بثلاث خصائص: الأولى، تجميع المعلومات ذات العلاقة، وتحديد الطريق بعد فوضى الحالة الثورية. الثانية، محاولة التقريب مع الطبيعة لكي تكون النظرية قريبة من تفسير الواقع ومعرفة الاستثناءات والحالات الخاصة.
الثالثة، التأكيد بتكرار التجارب من عدة علماء واختبارات الجودة والإثبات، وتطوير أدوات جديدة للإثبات، وإبداعات مختلفة تستغل في مجالات أخرى لم تكن لها علاقة مع الفكرة والنظرية الأولى. خصائص تشغل المهندسين والمجربين أكثر من العلماء والمنظرين، لأن الإجماع حول الطريق أصبح دون جدل يذكر. فمثلا محاولة أرسطو تفسير ظاهرة الحركة التي أثبت نيوتن أن أرسطو لم يقدم أي تفسير ذي قيمة عن الحركة لأن مركز اهتمامه لم يكن على ظاهرة الحركة المادية، لكن الحركة كظاهرة تغير في كل شي، لذلك تفسيره كان في إطار زمني وتطوري مختلف. كذلك جاليليو وكوبرنيكس جاءا بطرح وتفسير نوعي في علم الفلك. لذلك من المهم معرفة الإطار الفكري الذي ينطلق منه العلماء والمنظرون في حينه.
حين تكتمل دورة الخواص الثلاث الملازمة للحالة العادية تبدأ ضرورة التقدم بالضغط على المعتاد وتنشأ الظروف لحالة ثورية لتفسير العالم من جديد، تبدأ عادة بتكاثر الاستثناءات واستكشافات واختراعات جديدة حتى يبدأ تضايق وتقليل وعدم ارتياح من النموذج السائد. فلم تعد العلوم العادية كافية لتفسير العالم، خاصة التناقضات والاختلافات بين الواقع الجديد وحالة العلم العادي. في النهاية، لا بد من نموذج جديد بعد أن تصل الحالات الشاذة إلى درجة تستدعي تغير النموذج.
استطاع كوون في كتاب قصير (172 صفحة) تغيير طريقة التفكير عن التطور العلمي. كانت فلسفة كارل بوبر تسيطر على النهج الفكري التي تنادي بأن العلماء الحقيقيين هم من يحاولون تفنيد نظرياتهم وليس تأكيدها، لكن كوون يقول العكس، إن العلماء يصبحون سجناء للنموذج السائد. في الأخير هناك منافسة بين النماذج حتى يغلب أحدها ويجهز لمرحلة العلم العادي. قيمة الكتاب في المحتوى الفكري في صفحات قليلة نسبيا، والاهتمام به بعد 50 عاما من نشره، خاصة أنه ليس لفيلسوف وإنما لعالم فيزياء سجل ملاحظاته على تاريخ التطور العلمي. أجد الكتاب مفيدا للجميع، خاصة لما يشهده العالم من تغير في العلم والتقنية من ناحية، والتغيرات العالمية جيوسياسية وثقافية لما لذلك من تأثير في الإطارات الفكرية، وما يتبعها من تنافس علمي عالميا من ناحية أخرى.
نقلا عن الاقتصادية